عدالة إردوغان.. سيف ذو حدين!
المعارضة تحمّل إردوغان مسؤولية "تدمير سمعة وكرامة الدولة والأمة التركية" بعد أن تدخل أكثر من مرة بشكلٍ مباشر في قرارات القضاء ولصالح الدول الأجنبية.
تشهد تركيا منذ أيام نقاشاً مثيراً على الصعيدين السياسي والقضائي، بعد أن رفضت السلطات الحكومية تنفيذ قرار المحكمة الدستورية العليا بإخلاء سبيل جان اتالاي، الذي انتخب لعضوية البرلمان من حزب العمال اليساري، عن ولاية هاتاي جنوب البلاد.
وجاء موقف السلطات الحكومية هذا بعد أن رفضت محكمة التمييز قرار المحكمة الدستورية العليا، وهو ما يتناقض مع الدستور والقوانين التي يبدو أن الرئيس إردوغان، بدوره، يرفضها، باعترافه عندما قال إنه "لا يحترم قرارات المحكمة العليا" بعد أن اتهم عضو البرلمان المنتخب بالإرهاب.
وهو ما فعله أكثر من مرة بحق زعيم حزب "الشعوب الديمقراطي" السابق صلاح الدين دميرطاش (موجود في السجن منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2016)، وعدد من قيادات الحزب ورؤساء البلديات، بالإضافة إلى رجل الأعمال عثمان كافالا، وأمرت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بإخلاء سبيله وسبيل دميرطاش، بيْد أن إردوغان قال إنهم " ليسوا معنيين بهذه القرارات ولن يلتزموا بها".
موقف الرئيس إردوغان هذا جاء بعد أن سيطر تماماً على أجهزة القضاء بعد التعديلات الدستورية في نيسان/ إبريل 2017 حيث تم تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، ليصبح الآمر الناهي في كل صغيرة وكبيرة في كل المجالات وأهمها القضاء.
فأصدرت المحاكم خلال السنوات الأخيرة قراراتها بالسجن بحق المئات من السياسيين والصحفيين (ومنهم أنا) والأكاديميين والمواطنين العاديين فقط لأنهم انتقدوا إردوغان وسياساته الداخلية والخارجية.
ومن دون أن يكون تدخل الرئيس إردوغان في قرارات المحاكم، وهو الذي عيّن معظم قضاتها وقضاة المحكمة الدستورية العليا، الموضوع الوحيد الذي يشغل بال الأوساط الشعبية والسياسية في الداخل والخارج، إذ يستغل إردوغان سيطرته على الجهاز القضائي، الذي يحكم في معظم الحالات بغرامات مالية كبيرة كتعويضات لصالح إردوغان، الذي يلاحق زعماء أحزاب (كزعيم حزب الشعب الجمهوري السابق كليجدار أوغلو) وشخصيات معارضة بعد اتهامهم بالإساءة إلى إردوغان (مهما كان شكل الانتقاد) بصفته رئيس الجمهورية.
فأحزاب وقوى المعارضة تشير إلى خطورة هذا النهج الذي يهدد النظامين القضائي والدستوري، وبالتالي الديمقراطي برمّته بعد أن قام إردوغان بتعيين أتباعه في أجهزة القضاء التي لم تحرّك ساكناً تجاه التظاهرة التي شهدها مجمع المحاكم في إسطنبول قبل أيام.
فقد تظاهر المئات داخل المبنى بعد أن حضروا محاكمة أحد المواطنين الذي تطاول على أتاتورك فبرّأته المحكمة، ثم هتف الجميع مطالبين بإقامة الشريعة الإسلامية وهو ما يمنعه الدستور والقوانين في تركيا العلمانية. ويشهد العديد من المدن التركية ومنها إسطنبول بين الحين والحين مثل هذه التظاهرات من دون أي تدخل من سلطات الأمن التي تتدخل فوراً وبشدة ضد أي تظاهرة، مهما كانت صغيرة، إذا كان المشاركون فيها ضد إردوغان.
أحزاب وقوى المعارضة والأوساط الحقوقية ترى في كل هذه التصرفات وتفاصيلها المتشابكة، مع تشجيع من السلطات الحكومية والرئيس إردوغان للجماعات والتكايا والزوايا والمشايخ الذين يدعمونه، خطراً على مستقبل الجمهورية الديمقراطية العلمانية، ويتوقّع الكثيرون للرئيس إردوغان أن يستهدفها بشكل مباشر بعد انتصاره في الانتخابات البلدية نهاية آذار/مارس القادم.
هذا على الصعيد الداخلي، أما خارجياً فالمعارضة تحمّل إردوغان مسؤولية "تدمير سمعة وكرامة الدولة والأمة التركية" بعد أن تدخل أكثر من مرة بشكلٍ مباشر في قرارات القضاء ولصالح الدول الأجنبية.
فقد أمر الرئيس إردوغان القضاء بإخلاء سبيل الراهب الأميركي برونسون في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2018 بعد أن قضى في السجن نحو ثلاثين شهراً بتهمة التجسس والإرهاب، وهو ما تحدث عنه إردوغان في أكثر من خطاب وقال "إن برونسون لن يخرج من السجن ما دام (إردوغان) في السلطة". وجاء قرار الإخلاء هذا بعد تهديدات من الرئيس ترامب عبر حسابه في "تويتر" بتدمير الاقتصاد التركي بالكامل، إذا لم يخل إردوغان سبيل برونسون فوراً.
وتلقى إردوغان تهديدات غير مباشرة من المستشارة الألمانية مركل التي التقت آنذاك رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم في برلين، وطلبت منه إخلاء سبيل الصحفي الألماني /التركي دنيز يوجال فوراً، وأرسلت طائرة خاصة إلى إسطنبول لنقله إلى برلين في 17 شباط/ فبراير 2018. مع التذكير أن الرئيس إردوغان كان قد قال عن يوجال أيضاً " إنه جاسوس وإرهابي وخائن"، وأنه لن يخرج من السجن، ما دام إردوغان في السلطة.
وأما تهديدات الرئيس إردوغان لولي العهد السعودي محمد بن سلمان فهي الأكثر إثارة بالنسبة إلى المعارضة التي اتهمت إردوغان "ببيع الكرامة الوطنية مقابل حفنة من الدولارات".
فقد هدّد وتوعّد إردوغان محمد بن سلمان وحمّله مسؤولية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2018 وقال " إن ابن سلمان يعتقد أننا أغبياء فهو يطلب منا الوثائق والأدلة الخاصة بالجريمة حتى يتنصل منها ". واتهمت المعارضة إردوغان بالتناقض مع نفسه، إذ أمر بإغلاق قضية خاشقجي في جميع المحاكم التركية والدولية، وطلب من المتحدث باسمه إبراهيم كالين (رئيس المخابرات حالياً) أن ينقل ملف القضية كاملاً إلى الرياض ويسلمه شخصياً لمحمد بن سلمان.
كما سبق لإردوغان أن أمر في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2016 المحكمة في إسطنبول بإغلاق قضية سفينة مرمرة في المحاكم التركية والدولية، حيث كانت السفينة في طريقها إلى غزة نهاية أيار/ مايو 2010 فتصدّى لها "الجيش" الإسرائيلي وقتل عشرة من المواطنين الأتراك. وجاء قرار المحكمة هذا بعد الاتفاقية التي وقّع عليها الطرفان التركي والإسرائيلي، إذ تبرّعت "تل أبيب" بـ 20 مليون دولار لعائلات الضحايا.
وأثار كل ذلك غضب المعارضة التي اتهمت إردوغان بالتخلي حتى عن مبادئه، إذ كان يتحدث باستمرار عن دعمه وتضامنه مع الشعب الفلسطيني.
ولم يكن هذا الاتفاق التركي-الإسرائيلي الوحيد في مسلسل تنازلات الرئيس إردوغان قضائياً لـ"إسرائيل"، إذ اتهمته المعارضة بإصدار تعليماته للسلطات القضائية والأمنية لإخلاء سبيل مواطن إسرائيلي وزوجته كانا اعتقلا وهما يصوّران منزل إردوغان في إسطنبول. وأخلي سبيلهما في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 وعادا إلى "تل أبيب" بطائرة خاصة، بعد اتصال هاتفي من رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت ووزير خارجيته لابيد مع إردوغان ووزير خارجيته جاويش أوغلو.
وجاءت قضية نجل الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود لتزيد الطين بلة في سجل إردوغان القضائي بعد أن اتهمته المعارضة بالتدخل في القضية. فقد تسبب محمد بن حسن شيخ محمود الشهر الماضي وهو يقود سيارة تابعة للسفارة الصومالية في مصرع مواطن تركي يقود دراجته في إحدى الطرق الرئيسية في إسطنبول، ثم غادر تركيا بجواز سفره الدبلوماسي. وبعد الحملة التي تبنّتها المعارضة، وبدعم من الرأي العام، عاد محمد إلى إسطنبول فأمرت المحكمة بتبرئته مقابل غرامة مالية بسيطة نحو ألف دولار يدفعها بستة أقساط.
وفي جميع الحالات، وأياً كانت تناقضات الرئيس إردوغان وانتقادات المعارضة له في هذا المجال، يبدو واضحاً أن أتباعه وأنصاره لا يتأثرون بهذه التناقضات وغيرها وهي كثيرة، كما هي الحال في تصريحاته النارية ضد الكيان الصهيوني، إذ تستمر تركيا بتغطية معظم احتياجات هذا الكيان من مشتقات النفط والحديد والفولاذ والمتفجرات والمواد الكيماوية ومياه الشرب والمواد الغذائية وغيره.
وهو ما لم يبال به أتباع إردوغان وأنصاره الذين خرجوا ويخرجون إلى الشوارع ليهتفوا ضد إرهاب الكيان الصهيوني ومجازره، كما كانوا يهتفون في السابق بين الحين والحين ضد ترامب ومركل ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد والسيسي، وكل من كان إردوغان يرى فيهم أعداء له وللأمة والدولة التركية، لكنه اضطر إلى مصالحتهم في ما بعد، ناسياً كل ما قاله عنهم وعن كل أعدائه في الخارج والداخل، كما نسي ما يكتب في قاعة المحاكم التركية وخلف القاضي: "العدل أساس الحكم".