سياسات الجمباز.. متى تنتهي تناقضات إردوغان؟
بعد أن أعاد إردوغان علاقاته مع حكام الإمارات والسعودية ومصر والكيان الصهيوني إلى وضعها، يستعد الآن لمرحلة جديدة في علاقته الإقليمية، سلباً كان أم إيجاباً، بما في ذلك مع إيران.
بعد أن استفاد من علاقاته الشخصية والرسمية مع الرئيس بوتين، وحقق من خلالها ما يكفيه من التفوّق العسكري والسياسي والنفسي في سوريا وليبيا والعراق والصومال والمنطقة العربية عموماً، جاءت أحداث كاراباخ الأخيرة لتكرّس هذا التفوّق، وهذه المرة في القوقاز.
أولاً، لوجود الجيش التركي في أذربيجان، وثانياً عبر علاقات أنقرة المميزة مع جورجيا، وثالثاً احتمالات استسلام يريفان لشروط إردوغان للمصالحة مع أنقرة، بعد إغلاق ملف الإبادة الأرمنية في العهد العثماني، والتي يتحدث عنها الأرمن منذ أكثر من مئة عام، واعترفت بها برلمانات عديد من الدول ومنها أميركا وفرنسا.
ومن دون أن تمنع علاقات إردوغان الشخصية مع الرئيس بوتين أنقرة من الدخول في تحالفات عسكرية مهمة مع كييف ورفضها ضمّ القرم إلى روسيا واستمرارها في دعم الأقلية المسلمة في شبه جزيرة القرم، وهو ما تجاهله الرئيس بوتين ما دامت موسكو مستفيدة من علاقاتها الاقتصادية مع تركيا، التي لا تلتزم بالعقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا.
كما تسمح أنقرة للمواطنين الروس بالاستملاك والاستثمار والتنقل بحرية في تركيا، بعد أن حملوا معهم المليارات من الدولارات لدى مجيئهم إليها بعد الحرب في أوكرانيا. كذلك لا تتجاهل موسكو أهمية التزام أنقرة باتفاقية مونترو لعام 1936، التي تمنع تركيا بموجبها دخول السفن الحربية إلى البحر الأسود عبر مضيقَي البوسفور والدردنيل، وهو ما كان كافياً بالنسبة إلى روسيا حتى تتنفس الصعداء، بعد أن رفضت أنقرة مطالب دول الأطلسي بإرسال سفنها إلى البحر المذكور عبر المضائق المذكورة.
وبعد أن أعاد الرئيس إردوغان علاقاته مع حكام الإمارات والسعودية ومصر والكيان الصهيوني إلى وضعها الطبيعي، بعد أن هددهم وتوعّدهم طوال السنوات الماضية متهماً إياهم جميعاً "بالديكتاتورية والاستبداد والقتل والإجرام والإرهاب ومعاداة تركيا في جميع المجالات، وعلى المستويات والصعد كافة"، ها هو يستعد الآن لمرحلة جديدة في علاقته الإقليمية، سلباً كان أم إيجاباً، بما في ذلك إيران التي تراقب تحركات أنقرة من كثب في القوقاز والشرق الأوسط، خاصة بعد التقارب المثير بين أنقرة و"تل أبيب" بعد لقاء إردوغان مع نتنياهو في نيويورك.
والتقى بعد ذلك فوراً وفي جلسة مغلقة "ومثمرة جداً" زعماء المنظمات اليهودية في أميركا، وعبّروا عن ارتياحهم البالغ من " الحوار الإيجابي والصادق والبنّاء" مع الرئيس إردوغان.
في الوقت الذي ترشح فيه الأوساط السياسية العلاقات بين أنقرة و"تل أبيب" لمرحلة استراتيجية مثيرة بانعكاساتها على المعادلات الإقليمية والدولية (سوريا وإيران والقوقاز)، وذلك بعد زيارة نتنياهو القريبة إلى تركيا.
ومن دون أن تمنع كل هذه القضايا الساخنة الرئيس إردوغان من الاهتمام بقضايا قد تكون أكثر تعقيداً كما هي الحال في علاقاته بمنطقة البلقان حيث الأقليات المسلمة، والبعض منها من أصل تركي كما هي الحال في اليونان وبلغاريا وألبانيا وكوسوفو.
وهو الاهتمام الذي يقلق الكثيرين في هذه المنطقة بسبب الذكريات التاريخية السيئة للحكم العثماني في هذه المناطق، وحسب الطروحات الرسمية لدول المنطقة. ويصادف كل ذاك التوتر الخطير في كوسوفو ذات الأغلبية الألبانية المسلمة مع جارتها صربيا التي تربط رئيسها فوتشيش علاقات مميزة مع الرئيس إردوغان الذي يدعم رئيسة كوسوفو فيوسا عثماني التي تحظى بدعم كبير من أنقرة وفي جميع المجالات.
كما تحظى بدعم مماثل من واشنطن والعواصم الأطلسية التي لا تخفي انزعاجها من تضامن صربيا بسكانها الأرثوذكس مع موسكو في حربها ضد الأطلسي في أوكرانيا. وتحظى عثماني بدعم كبير من الكيان الصهيوني الذي كسب كوسوفو إلى جانبه بعد اعترافها في شباط/ فبراير 2021 بالقدس عاصمة للكيان المذكور.
تبقى علاقات الرئيس إردوغان الشخصية مع أوربان، رئيس وزراء هنغاريا، التي تدعم صربيا في مواجهاتها مع الأطلسي في كوسوفو وتتضامن مع روسيا، العنصر الأصعب في تكتيكاته في منطقة البلقان بانعكاساتها على المعادلات الدولية.
مع التذكير أن هنغاريا عضو مراقب في منظمة الدول التركية التي تضم الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز، والتي لا تعترف بجمهورية شمال قبرص التركية رسمياً، مع العلم أن هذه الجمهورية هي أيضاً عضو بصفة مراقب.
المنظمة المذكورة التي قال إردوغان، أول أمس، إنها ستحظى باهتمام أكبر من أنقرة خلال هذا القرن وسمّاه بـ"القرن التركي الذي على العالم أن يترجّل رعباً منه"، وفق النشيد الوطني الخاص بالذكرى المئوية للجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1923.
ويعرف الجميع أن إردوغان وأتباعه يسعون للتخلص من إرثها السياسي والفكري، والعودة إلى امتداد الخلافة والسلطنة العثمانية التي حكمت الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان لمئات السنين، منذ حرب كوسوفو الأولى في العام 1389 ضد الملوك والأمراء الصليبيين.
وقتل السلطان مراد في هذه المعركة الدموية فحلّ محله السلطان بيازيد الذي زوّجته ملكة صربيا ميليسا التي قتل زوجها هي أيضاً في المعركة من ابنتها كبادرة سلام، بعد أن قتل عشرات الآلاف من العسكر في المعارك الطاحنة.
وهذه هي الحال في كل المعارك التي خاضتها الدولة العثمانية مع كل الأطراف الأخرى بما فيها روسيا ومعظم الدول الأوروبية حتى سقوطها في الحرب العالمية الأولى، وأقام أتاتورك على أنقاضها جمهوريته العلمانية، ويبدو أنها تقترب من نهايتها على يد إردوغان الذي يتغنّى ومنذ ما يسمّى بـ"الربيع العربي" بأمجاد الإمبراطورية العثمانية وتناقضاتها لا تعدّ ولا تحصى.