انتخابات تركيا المحلية.. ماذا عن العلمانية؟
يبقى الرهان الأخير على سياسات حزب الشعب الجمهوري ورؤساء البلديات الذين تم انتخابهم في الانتخابات الأخيرة، وخصوصاً في الولايات الكبرى، كإسطنبول وأنقرة وأزمير وأنطاليا ومرسين وأضنة وغيره.
في قمة مشروع الشرق الأوسط الكبير التي عُقدت في سي آيلاند في أميركا في 9 حزيران/يونيو 2004، ناشدت واشنطن الأحزاب والقوى الإسلامية في العالم العربي للاستفادة من تجربة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب إردوغان الذي تسلّم السلطة في تشرين الثاني/نوفمبر 2002 عبر انتخابات ديمقراطية في بلد إسلامي ونظامه علماني، يؤدي العسكر الموالون لأميركا دوراً أساسياً في حياته السياسية.
استغلَّت أنقرة هذه "التوصية" الأميركية، وأقامت علاقات رسمية واسعة مع العواصم العربية بعد أول زيارة لرئيس الوزراء عبد الله غول إلى دمشق في 4 كانون الثاني/يناير 2003، ثم القاهرة والرياض وعمان والكويت، فيما سعى حزب العدالة والتنمية، سراً كان أم علناً، للاتصال بالأحزاب والقوى الإسلامية العربية، إن كان داخل دولها أو في الخارج.
دفعت هذه العلاقات قيادات العدالة والتنمية إلى انتهاج سياسات "إسلامية" في الداخل التركي، ليساعدها ذلك في الحد من تأثير القوى العلمانية، وفي مقدمتها الجيش، في الحياة السياسية.
وجاءت الاعتقالات للفترة 2008-2010 التي استهدفت الجنرالات بتهمة التخطيط لانقلاب ضد الحكومة لتساعدها في التخلص من هذه القوى التي كانت تفتقر إلى دعم من الشارع الشعبي، والسبب في ذلك هو فشل أحزاب وقوى المعارضة العلمانية في الاتفاق على مشروع مشترك ضد حكم العدالة والتنمية.
وجاء ما يسمى بالربيع العربي ليساعد قبل ذلك الرئيس إردوغان كي يؤدي دوراً أساسياً في المنطقة عبر العلاقة مع أحزاب وقوى الإسلام السياسي في تونس ومصر وليبيا وسوريا بعدما بايعته أحزاب وحركات الإخوان باعتباره امتداداً للخلافة والسلطنة العثمانية التي كان يتغنى بأمجادها، ليس على الصعيد الخارجي فحسب، بل على الصعيد الداخلي أيضاً.
وأثبتت الدراسات واستطلاعات الرأي أن العلاقة الاستراتيجية بين حزب العدالة والتنمية والقوى الدينية من أهم أسباب تراجع شعبيته في الانتخابات الأخيرة، فقد بينت العديد من الدراسات أن قطاعات واسعة من المواطنين الأتراك الموالين للأحزاب اليسارية واليمينية بمختلف انتماءاتها وميولها لم تخفِ قلقها من تصاعد التيار الاسلامي، وخصوصاً المتطرف منه، بعد تجربة الرأي العام التركي مع العمليات الإرهابية التي نفذها عناصر داعش وأمثاله في تركيا، وقبلها سوريا والدول الأخرى.
ولم تخفِ هذه القطاعات أيضاً انزعاجها من سلوك السلطات الحكومية التي لم تحتفل بالشكل المطلوب بالذكرى المئوية لقيام الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923.
وسبق ذلك تصريحات استفزازية من قيادات العدالة والتنمية والأوساط الدينية الموالية لها ضد النظام العلماني لهذه الجمهورية، فقد زادت أصوات حزب الشعب الجمهوري وحزب المساواة والشعوب الديمقراطي (الكردي) والأحزاب اليسارية واليمينية العلمانية الأخرى على 50%، مع التذكير أن عدداً من الناخبين الذين صوتوا للعدالة والتنمية والحركة القومية وأحزاب يمينية أخرى لا يخفون التزامهم بأسس الجمهورية العلمانية ومبادئها.
ويبقى الرهان الأخير على سياسات حزب الشعب الجمهوري ورؤساء البلديات الذين تم انتخابهم في الانتخابات الأخيرة، وخصوصاً في الولايات الكبرى، كإسطنبول وأنقرة وأزمير وأنطاليا ومرسين وأضنة وغيره؛ فإذا نجح هؤلاء من خلال الخدمات البلدية في استقطاب الأوساط المتدينة مع ضرورة تهرب قيادات الشعب الجمهوري من المقولات والمواقف والتصرفات الاستفزازية ضد الإسلاميين، فالساحة السياسية ستشهد الكثير من التغيرات المثيرة التي ستنعكس بشكل مباشر وغير مباشر على خيارات المواطن التركي بين التيارين الديني والعلماني، وبالتالي على خياراته السياسية في أول انتخابات رئاسية وبرلمانية، وهو ما سيحظى باهتمام مباشر وغير مباشر من العواصم الغربية التي أوصت الأتراك والعرب بأن يكونوا قبل 20 عاماً إسلاميين ديمقراطيين. وقد تشجعهم منذ الآن على المزيد من التوجه العلماني والديمقراطي مع وعود بفتح أبواب الاتحاد الأوروبي المغلقة أمام الأتراك منذ أكثر 60 عاماً.
وربما يكون السبب في ذلك فشل الغرب في تحقيق أهدافه من خلال الربيع العربي الذي لو حالفه الحظ في النجاح، لكانت أنقرة بدورها قد حققت كل مشاريعها ومخططاتها السياسية والتاريخية، والأهم العقائدية، وليس البعض منها، كما هي الحال عليه الآن في الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وآسيا الوسطى.