انتخابات تركيا.. النتائج والاحتمالات
يبقى الرهان في نهاية المطاف على مدى نجاح الرئيس إردوغان وحزب العدالة والتنمية في معالجة كل الأزمات والمشاكل التي تعيشها تركيا دولة وشعباً على صعيد السياستين الداخلية والخارجية.
بعد 47 عاماً من انتخابات 1977 التي خرج منها الشعب الجمهوري منتصراً بعد أن حصل على 42% من الأصوات حالف الحظ الحزب المذكور هذه المرة للتقدّم على حزب العدالة والتنمية، فأصبح الحزب الأول بعد أن حصل على 37.8% من الأصوات مقابل 35.5% من الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 22 عاماً.
وساعدت هذه النسبة الشعب الجمهوري للفوز في 35 ولاية رئيسية (يعيش فيها 60% من سكان تركيا)، ومنها العاصمة السياسية للجمهورية التركية العلمانية أنقرة، والعاصمة التاريخية للخلافة والسلطنة العثمانية إسطنبول، وهو ما كان كافياً بالنسبة لأكرم إمام أوغلو لتحقيق انتصاره الثاني بعد انتخابات 2019 عندما أصبح رئيساً للبلدية.
وسيطر إمام أوغلو على أغلبية أعضاء المجلس البلدي الذي كان تحت سيطرة حزب العدالة والتنمية بعد أن فاز مرشّحو الشعب الجمهوري في 26 فرعاً بلدياً في ولاية إسطنبول، وأهمها بلدية أوسكودار التي يسكن فيها الرئيس إردوغان وفازت فيها سيدة من حزب الشعب الجمهوري.
وفاز مرشح آخر للشعب الجمهوري في بلدية بيشيكطاش حيث يوجد قصر السلطان عبد الحميد الذي يستخدمه الرئيس إردوغان كمقرّ رئاسي له في إسطنبول، كما فاز مرشح آخر من الشعب الجمهوري في منطقة يني محله حيث يوجد القصر الرئاسي في أنقرة.
وخسر حزب العدالة والتنمية العديد من البلديات الفرعية في أنقرة وإسطنبول والتي كانت تحت سيطرته منذ 25 عاماً، حالها حال العديد من البلديات الفرعية في الولايات الأخرى التي فاز فيها الحزب وعددها 24 ولاية فقط، هذا على الرغم من دعم الحركة القومية والوحدة الكبرى وأحزاب يمينة أخرى للعدالة والتنمية.
وتراجعت شعبيته للمرة الأولى إلى ما كانت عليه في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2002 حيث استلم السلطة بأغلبية 36% من الأصوات، إلا أنه سيطر آنذاك على ثلثي البرلمان بسبب قانون الانتخابات.
الأوساط السياسية تبرّر تراجع شعبية العدالة والتنمية بقضايا الفساد والفشل في السياستين الداخلية والخارجية، وبانعكاسات ذلك على الحياة الديمقراطية وحرية الصحافة والتعبير عن الرأي.
وهو ما كان سبباً لانتقادات عنيفة من العواصم والمؤسسات الغربية، وأهمها البرلمان والمجلس الأوروبي ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية.
فقد رفضت أنقرة الالتزام بقرارات المحكمة الأوروبية التي أمرت بإخلاء سبيل صلاح الدين دميرطاش وفيكان يوكساكداغ، الزعيمين المشتركين السابقين لحزب الشعوب الديمقراطي والموجودين في السجن منذ نهاية 2016، ومعهما رجل الأعمال عثمان كافالا والعشرات من رؤساء البلديات وكوادر حزب الشعوب الديمقراطي الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني. وفاز مرشحو هذا الحزب من جديد في انتخابات الأحد في 10 ولايات مهمة، وأبرزها ديار بكر وماردين وفان و65 فرعاً بلدياً في جنوب شرق البلاد حيث يعيش الكرد بكثافة.
الانتخابات التي شارك فيها 34 حزباً سياسياً خرجت بنتائج مثيرة قد تحدّد مستقبل الخارطة السياسية للبلاد بغياب أي تحالف للمعارضة التي وحّدت قواها في انتخابات أيار/مايو الماضي وخسرت في مواجهة الرئيس إردوغان آنذاك.
فقد حصل حزب المستقبل الذي يتزعّمه رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو في انتخابات الأحد على 0.07% فقط من الأصوات، مقابل 0.03% لحزب الديمقراطية والتقدّم الذي يتزعّمه وزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان وانشقّا عن العدالة والتنمية.
فيما حصل حزب السعادة الإسلامي على 0.98% مقابل 0.02% للحزب الديمقراطي، ليكون مجموع الأحزاب الأربعة 1.69% فقط. مع التذكير أن للأحزاب الأربعة 38 عضواً في البرلمان، وفازوا في انتخابات أيار/مايو الماضي من لوائح حزب الشعب الجمهوري، وذلك في إطار قرارات تحالف الأمة.
وتتوقّع الأوساط السياسية نهاية قريبة لهذه الأحزاب الأربعة ومعها الحزب الجيّد بزعامة مارال اكشانار، التي حصل حزبها على 3.5% من الأصوات بعد أن تبنّت موقفاً معادياً لحليفها السابق حزب الشعب الجمهوري ومرشّحيه خاصة في إسطنبول وأنقرة.
في الوقت الذي ترى فيها الأوساط السياسية في فاتح أربكان نجل الزعيم الإسلامي ورئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان المفاجأة الكبرى بالنسبة لنتائج الانتخابات، حيث حصل حزبه الرفاه الجديد على 6.2% من الأصوات بعد أن وجّه انتقادات عنيفة لسياسات أنقرة الداخلية والخارجية.
الرئيس إردوغان الذي تحدّث عن هزيمة حزبه في الانتخابات قال "إنهم سيدرسون أسباب هذا الفشل ويتخذون الإجراءات والتدابير اللازمة لمواجهة تبعاته المستقبلية".
وتتوقّع الأوساط السياسية له أن يواجه الكثير من التحديات السياسية في حال فشله في إيجاد الحلول العاجلة والناجحة للأزمات الخطيرة التي تواجه البلاد على صعيد السياسة الخارجية، وأهمها العلاقة مع الحلف الأطلسي وتحقيق التوازن في العلاقة بين واشنطن وموسكو مع اقتراب موعد لقائه المرتقب مع الرئيس بايدن في البيت الأبيض في 9 أيار/مايو المقبل.
أما داخلياً فالبلاد تعيش أخطر أزماتها الاقتصادية والمالية التي كانت من أهم الأسباب التي دفعت الناخبين الأتراك، وخاصة ذوي الدخل المحدود والمتقاعدين والفقراء، لعدم التصويت للعدالة والتنمية باعتبار أنه السبب في هذا الواقع الصعب جداً بالنسبة لهم.
فقد زادت الديون الخارجية عن 450 مليار دولار، وارتفعت نسبة التضخّم إلى 120% وفق الأوساط المالية المستقلة، وهو ما انعكس على ارتفاع أسعار كلّ المنتجات والبضائع والمواد الغذائية والخدمات وبشكل جنوني خلال عام واحد فقط (ليتر البنزين ارتفع سعره من 22 ليرة في 31 آذار/مارس العام الماضي إلى 44 ليرة الآن أي 1.4 دولار تقريباً).
ويبقى الرهان في نهاية المطاف على مدى نجاح الرئيس إردوغان وحزب العدالة والتنمية في معالجة كل الأزمات والمشاكل التي تعيشها تركيا دولة وشعباً على صعيد السياستين الداخلية والخارجية، مع أحاديث الأوساط السياسية عن المواجهة المحتملة بين الرئيس إردوغان ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو في أول انتخابات رئاسية مقبلة.
ويتوقّع الكثيرون لها أن تكون قبل موعدها الدستوري في أيار/مايو 2028، هذا بالطبع إن لم يحالف الحظ الرئيس إردوغان في إقناع الناخب التركي بحنكته السياسية التي ستساعده على حلّ كلّ المشاكل والأهم الاقتصادية والمالية والمعيشية، وذلك بعيداً عن المقولات والشعارات القومية والدينية والتاريخية، والتي يبدو أنه لم تكن كافية هذه المرة لكسب رضى الناخبين الذين أرادوا أن يجرّبوا حظهم هذه المرة مع الشعب الجمهوري.
فإذا نجح ومن خلال البلديات التي فاز فيها في إثبات جدارته بمعالجة أزمات ومشاكل المواطنين فسوف يزيد من شعبيته التي قد تساعده لتحدّي الرئيس إردوغان وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 2028.
وهو الاحتمال الذي سيرشّح تركيا بعلاقاتها الإقليمية والدولية لسلسلة من المفاجآت على صعيد كلّ المعطيات الداخلية والخارجية، والتي ستحدّد مصير ومستقبل حزب العدالة والتنمية الحاكم.