إردوغان والعثمانية الجديدة.. "لقد عدنا من جديد"!
تفسر شعارات إردوغان القومية والدينية قبل كل انتخابات خلفياته الفكرية والعقائدية التي يبدو أن أكثر من نصف الشعب التركي يؤيدها، على الرغم من كل مشكلاته اليومية الصعبة والخطيرة.
بعد الراحليْن تورغوت أوزال ونجم الدين أربكان اللذيْن جرّبا حظّيْهما للعودة إلى المنطقة العربية بشعارات ومقولات معظمها تاريخي وديني، ولم تلقَ آنذاك ترحيباً شعبياً واسعاً، حالف الحظ رجب طيب إردوغان فحقق بعضاً من أهداف أوزال وزعيمه العقائدي أربكان، ولكن بدعم واشنطن والعواصم الغربية.
فقد أوصت هذه العواصم الأحزاب والقوى السياسية في العالم العربي بالاستفادة من تجربة حزب "العدالة والتنمية" ذي الأصول الإسلامية، بعد أن استلم السلطة ديمقراطياً في دولة مسلمة ونظامها علماني.
وساعدت هذه التوصية حزب "العدالة والتنمية" وزعيمه إردوغان في الانفتاح بسرعة على المنطقة عبر البوابة السورية، إذ زار عبد الله غول بصفته رئيس الحكومة الأولى لـ"العدالة والتنمية" دمشق في 5 كانون الثاني/يناير 2003، بعد شهرين من استلام "العدالة والتنمية" السلطة في انتخابات 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2002.
وساهمت هذه الزيارة ومن بعدها زيارة القاهرة والرياض وعمان والكويت وطهران في فتح أبواب المنطقة العربية أمام تركيا بعقيدتها الجديدة ذات الطابع الإسلامي، والتي اكتسبت معاني جديدة وعملية مع ما يسمّى بـ"الربيع العربي". فاعتقد إردوغان أن الفرصة باتت متاحة أمامه "لغزو" المنطقة من جديد، بعد أن تبنى شعارات هذا "الربيع" وبايعه إسلاميو المنطقة كسلطان وخليفة للمسلمين.
وشجعت هذه المبايعة الرئيس إردوغان على مزيد من التدخل المباشر في أحداث "الربيع"، خصوصاً بعد استلام الإخوان المسلمين السلطة في مصر وتونس، ونوعاً ما في ليبيا الجارة للسودان الذي كان يحكمه صديق وحليف إردوغان عمر البشير منذ أكثر من عشرين عاماً. ومع ذلك، كان التدخل التركي في أحداث الجارة سوريا هو الأهم في حسابات الرئيس إردوغان، الذي اعتقد أنه سيكون السلطان سليم الثاني. فاستنفر كل إمكانياته لدعم المعارضة السورية، السياسية منها والمسلحة، بعد أن تأسس "الجيش السوري الحر" و"المجلس الوطني السوري المعارض" في تركيا التي احتضنت كل فعاليات المجلس، على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية.
وجاء حديث الرئيس إردوغان عمّا يسمّى بالميثاق الوطني التركي لعام 1920، وكان الشمال السوري والعراقي وفق هذا الميثاق جزءاً من خارطة تركيا الحالية. وربما لهذا السبب تدخلت أنقرة بشكل مباشر في مجمل أحداث سوريا داخلياً وإقليمياً ودولياً، وانتهى بها المطاف بإرسال جيشها إلى سوريا، فسيطر على نحو عشرة في بالمئة من مساحتها، بعد أن تبنّت ما يسمّى بـ"الجيش الوطني السوري" الذي تأسس في أنقرة صيف 2019.
واستغل إردوغان هذا الوجود العسكري في الشمال السوري فقام بالدعاية لأفكاره العقائدية ذات الطابع السياسي، ليحيي بذلك ذكريات أجداده بعد أن دخل السلطان سليم سوريا بعد معركة مرج دابق في آب/ أغسطس 1516، ثم القاهرة في كانون الثاني/يناير 1517 ليعود منها خليفة للمسلمين.
ولم يكتف إردوغان بوجوده العسكري في الشمال السوري، ففتح أبواب بلاده على مصراعيها أمام نحو أربعة ملايين لاجئ سوري، وقدّم لهم التسهيلات كافة، وكل أنواع الدعم المادي والمعنوي؛ لأنه يرى فيهم وفي أقربائهم في الداخل السوري حاضنته الشعبية التي يريد لها أن تقوم بالدعاية له ولأفكاره الدينية والقومية والتاريخية. وهو ما فعله إردوغان مع الليبيين عندما أرسل قواته والمرتزقة السوريين لدعم بعض الفصائل الإسلامية هناك، والتي كانت تقاتل قوات خليفة حفتر المدعومة من مصر والإمارات.
ومن دون أن ينسى إردوغان الحديث عن الجذور التاريخية، بل وحتى العرقية لنحو مليون ليبي، قال إن أجدادهم أتراك وهم من بقايا الحكم العثماني لليبيا في الفترة 1553-1912. وكانت هذه المعطيات كافية بالنسبة إلى إردوغان الذي أسس لوجود عسكري وسياسي وأمني واقتصادي وعقائدي واسع في ليبيا، وتونس بل وحتى موريتانيا بعلاقات مباشرة وغير مباشرة مع إسلاميي الشمال الأفريقي عموماً، وازدادت اهتماماتهم في بالحكم " الإسلامي الديمقراطي" في تركيا، ولا يعرف هؤلاء الإسلاميون أي تفاصيل عن هذا الإسلام وهذه الديمقراطية بكل تناقضاتها التاريخية والدينية والاجتماعية والثقافية في تركيا العثمانية أو الجمهورية.
وآخر مثال على ذلك هو الوجود التركي الكبير سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ودينياً وثقافياً في الصومال ذي الموقع الاستراتيجي الذي يحظى باهتمام العديد من الدول الإقليمية والدولية، ومنها الإمارات والسعودية وإثيوبيا ذات العلاقات المميزة مع "تل أبيب"، في وقت منحت أنقرة الجنسية التركية الآلاف من الصوماليين، وقدّمت المنح الدراسية لعدد مماثل منهم ليدرسوا في الجامعات التركية مجاناً.
وكان العراق دائماً ضمن اهتمامات أنقرة لأسباب عديدة، ليس فقط لأن أوساطها القومية ما زالت تتحدث عن الحق التاريخي في ولاية الموصل التي تضم الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك، بل أيضاً بسبب الأقلية التركمانية في كركوك والعراق عموماً.
وكانت الحرب ضد مسلحي الكردستاني المبرر الآخر للتدخل التركي المباشر وغير المباشر في العراق، حيث أقام الجيش التركي في شماله نحو عشرين قاعدة وموقعاً في الوقت الذي أقامت فيه أنقرة علاقات مميزة مع مسعود البرزاني وعائلته التي تحكم إقليم كردستان العراق، وسبق له أن قال عام 1991 أنه مستعد لرفع العلم التركي إذا اجتاح الجيش التركي شمال العراق خلال حرب الكويت. ومن دون أن تهمل أنقرة علاقاتها مع القوى والأحزاب والعشائر السنية التي أرادت لها أن تكون امتداداً اجتماعياً ونفسياً لتركيا ليوازن ذلك الدور الإيراني في العراق وعبره في سوريا ومنطقة الخليج عموماً.
ومن دون أن تعني كل هذه المعطيات أن التدخل التركي المباشر وغير المباشر في سوريا والعراق والصومال وليبيا هو الوحيد في حسابات أنقرة، التي تتحدث المعلومات بين الحين والحين عن علاقاتها السرية والعلنية مع الأحزاب والقوى والمجموعات والفئات التي ترى فيها قوة احتياطية تدعم حساباتها ومشاريعها ومخططاتها المستقبلية، بما في ذلك إحياء ذكريات السلطنة العثمانية بنكهتها التركية.
ويفسر ذلك اهتمام أنقرة بتركمان لبنان وإيران (بمن فيهم الأذريون وهم من أصل تركي)، كما يفسر تشجيع السياحة العربية إلى تركيا لدعم الدعاية لإردوغان وتركيا "المسلمة والمتحضرة " التي حصل عشرات الآلاف (والبعض يقول مئات الآلاف) من العرب ذوي الميول الإسلامية على جنسيتها بعد شراء المساكن فيها.
وفي جميع الحالات، ومهما كانت نسب نجاح سياسات إردوغان هذه، وحساباته التي يريد لها أن تساعده في إحياء ذكريات السلطنة والخلافة العثمانية، ليس فقط في المنطقة العربية التي حكمها الأتراك 400 عام، بل أيضاً في منطقة البلقان التي حكمها الأتراك أيضاً لسنوات أطول، وما زال فيها عدد كبير من الأصول التركية كما هي الحال في البوسنة وكوسوفو وألبانيا وبلغاريا واليونان وقبرص. ومن دون أن يهمل إردوغان حساباته القومية في القوقاز وآسيا الوسطى حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي تضاف إليها الأقليات المسلمة داخل حدود روسيا الحالية.
وقد تفسر شعارات إردوغان القومية والدينية قبل كل انتخابات خلفياته الفكرية والعقائدية التي يبدو أن أكثر من نصف الشعب التركي يؤيدها، على الرغم من كل مشكلاته اليومية الصعبة والخطيرة. كما تفسر دعم إردوغان القوى والأحزاب والمجموعات القومية والدينية داخلياً، وخلافاً لما يقوله لحكام الإمارات والسعودية ومصر في ما يتعلق بقطع علاقاته مع الإخوان المسلمين مع استمرارها في ليبيا وسوريا والصومال ومناطق أخرى.
ويعرف الجميع أن إردوغان يوليها اهتماماً خاصاً، كونه يرى فيها جزءاً من مشاريعه ومخططاته التي يبدو واضحاً أنها قد حققت معظم أهدافها، والسبب في ذلك هو تناقضات الأنظمة العربية وخلافاتها وعداواتها بعضها لبعض.
وهو ما استغله الرئيس إردوغان بذكاء وبدعم تارة من روسيا وأخرى من أميركا والغرب، كما هي الحال في سوريا وليبيا والعراق والصومال. وهو ما سيكون كافياً بالنسبة إلى إردوغان للانتقال في الوقت المناسب إلى المرحلة التالية لتنفيذ مشروع العثمانية الجديدة، وهو خليط ديني وقومي بنكهة فكرية وثقافية حققت البعض من أهدافها، بالرغم من أن تركيا بمعطياتها السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية تختلف كثيراً عن دول المنطقة، ويعود الفضل في ذلك إلى نظامها الديمقراطي العلماني الذي يسعى إردوغان للتخلص منه كي تصبح تركيا صورة طبق الأصل عن دول المنطقة، ولهذا السبب صالح إردوغان حكام الإمارات والسعودية ومصر، وربما قريباً سوريا، وحتى يكرر التاريخ نفسه من جديد، ويحيي ذكريات السلطان سليم!