تركيا وروسيا.. آسيا الوسطى بعد أفغانستان؟

ترى أنقرة في الانسحاب الأميركي من أفغانستان فرصتها الثمينة للحصول على مواطئ قدم في هذا البلد المجاور لجمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصل التركي.

  • لم يتجاهل إردوغان والآخرون الموقع الاستراتيجي لأفغانستان الغنية بالذهب والحديد والكوبالت والنحاس والأورانيوم والمعادن النادرة.
    لم يتجاهل إردوغان والآخرون الموقع الاستراتيجي لأفغانستان الغنية بالذهب والحديد والكوبالت والنحاس والأورانيوم والمعادن النادرة.

مع اقتراب الانسحاب الأميركي التام من أفغانستان، احتدمت المنافسة بين تركيا وكل من روسيا وإيران ودول أخرى، بهدف كسب المزيد من المواقع، ليس في هذا البلد فحسب، بل من خلاله في آسيا الوسطى عموماً أيضاً؛ فمع سيطرة حركة "طالبان" على المزيد من المساحات، وهروب القوات الأفغانية بشكلٍ جماعي، اتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس طاجيكستان إمام علي رحمن، وأكّد دعم بلاده له في مواجهة التطورات المحتملة في الأزمة الأفغانية، بعد أن لجأ الآلاف من العساكر الأفغان إلى هذا البلد الجار.

كما أعلن الجيش الروسي، يوم الثلاثاء الماضي، اختبار جهوزية منظومات صواريخ "إس- 300" المضادة للأهداف الجوية في القاعدة الروسية في طاجيكستان، التي لا تخفي بدورها قلقها من احتمالات انفجار الوضع الأمني في أفغانستان، وهو ما قد تستغلّه المجموعات الجهادية المختلفة، التي يتواجد بعضها الآن في إدلب ومناطق أخرى من سوريا، تحت حماية تركيا، التي تمنع الرئيس بوتين من أيّ عمل يستهدف هذه الجماعات بشكل مباشر. 

كما أجرى الرئيس بوتين اتصالاً هاتفياً ثانياً بنظيره الأوزبكستاني شوكت مير ضيائف، وبحث معه تفاصيل التنسيق والتعاون المشترك لمواجهة التطورات المحتملة في أفغانستان.

بدوره، قال وزير الخارجية لافروف "إن المشكلة الرئيسية هي التهديد المتزايد للهجمات الإرهابية، لأن حركة طالبان تتصرف بشكل أكثر عدوانية. كما أن تنظيم داعش الإرهابي يعزز وجوده في الأجزاء الشمالية من أفغانستان قرب الحدود مع حلفاء روسيا".

وأعلن الأمن الروسي إحباط العديد من العمليات الإرهابية التي خطط لها مسلحو حزب "التحرير" الإسلامي، الذي ينشط أساساً في جمهوريات الحكم الذاتي داخل حدود روسيا الفيدرالية، التي يعد معظم سكانها من المسلمين، ويزيد عددهم على 20 مليوناً.

تراقب إيران - لها حدود مشتركة مع أفغانستان بطول 936 كم، وباكستان بطول 909 كم، وتركمانستان 992 كم - التطورات الأفغانية عن كثب، نظراً إلى علاقة الأمر مباشرة بالأمن القومي الإيراني. وقد استضافت طهران الثلاثاء الماضي اجتماعاً بين ممثلي "طالبان" والحكومة الأفغانية، في محاولة منها لتحقيق المصالحة السلمية بين الطرفين بعد الانسحاب الأميركي نهاية الشهر المقبل.

بدورها، ترى أنقرة في هذا الانسحاب فرصتها الثمينة للحصول على مواطئ قدم عديدة في هذا البلد المجاور لجمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصل التركي، وهي كازاخستان وتركمنستان وقرغيزيا وأوزبكستان، فقد زار وزير الدفاع خلوصي آكار نهاية الشهر الماضي كلاً من طاجيكستان وقرغيزيا، في محاولة جديدة من أنقرة لتطوير العلاقات العسكرية مع هاتين الدولتين، ولاحقاً مع تركمنستان وأوزبكستان وكازاخستان، وهي جميعاً تشكّل الحديقة الخلفية لروسيا، التي سبق للرئيس إردوغان أن تحداها في أوكرانيا وأذربيجان وليتوانيا.

كما تحداها بإضاءة الضوء الأخضر لمناورات أطلسية تخللتها استفزازات بريطانية وهولندية في البحر الأسود، الذي تريد له واشنطن، وبدعم من أنقرة، أن يتحول إلى حوض أطلسي بعد ضم جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف. ويضم الحلف في عضويته أساساً تركيا ورومانيا وبلغاريا التي تطل على البحر الأسود، فيما تسيطر تركيا على مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطان البحر الأسود بكل من بحر مرمرة وإيجة.

وقد وقعت أنقرة على العديد من اتفاقيات التعاون العسكري مع بلغاريا ورومانيا، ثم باعت طائراتها المسيرة لكل من ليتوانيا وأوكرانيا وألبانيا وأذربيجان، التي حققت انتصاراتها السريعة في حربها مع الأرمن في إقليم ناغورنو كاراباخ بفضل الدعم التركي.

وتحدثت المعلومات بعدها عن مساعي تركيا لإنشاء العديد من القواعد العسكرية في أذربيجان، بما في ذلك قاعدة قريبة من بحر قزوين (تطل عليه أيضاً إيران) الغني بالبترول والغاز. وقد يشكّل ذلك في حال حدوثه أزمة جديدة وخطيرة بين أنقرة وموسكو التي عبّرت سابقاً عن انزعاجها ورفضها للقواعد التركية في أذربيجان عموماً، وهو ما لن يبالي به الرئيس إردوغان، الذي لم يبالِ بالتهديدات الروسية في سوريا وليبيا، واستمر في تطبيق ما خطط له مسبقاً على طريق العودة إلى أحلام الإمبراطورية العثمانية.

وقد كان لهذه الإمبراطورية العديد من الأسباب لتدخل في 16 حرباً ضارية مع الإمبراطورية الروسية، هزمت في 11 منها. ويرى الكثيرون في الرئيس بوتين وريثاً لهذه الإمبراطورية، كما يرى إردوغان في نفسه وريثاً للإمبراطورية العثمانية وخلافتها الإسلامية، وهو ما قد يجعل من الحوار والتنسيق والتعاون التركي المحتمل مع كابول بعد سيطرة طالبان عليها أسهل بكثير، حتى لو كانت تركيا الدولة المسلمة الوحيدة داخل الحلف الأطلسي الذي احتل أفغانستان بقيادة أميركا في العام 2001، فقد أعلن إردوغان بعد لقائه الرئيس بايدن، في 14 الشهر الماضي في بروكسل، أن تركيا على استعداد لإرسال قوات إضافية إلى أفغانستان لحماية أمن مطار كابول والمرافق الدولية، وهو ما سيساهم به حليفه، الشيخ تميم أمير قطر، الذي أدى، وما زال، دوراً هاماً في المصالحة الأميركية مع "طالبان".

وكانت قناة "الجزيرة" لسان حال "طالبان" خلال حربها مع "الشيطان الأكبر" أميركا، في الوقت الذي كان أسامة بن لادن يرسل أشرطته حصراً إلى القناة المذكورة قبل وبعد الاحتلال الأميركي وحتى مقتله في أيار/مايو 2011، أي بعد ظهور "داعش" و"النصرة" في سوريا والعراق، وهي ساحات أميركا وحليفاتها الجديدة لتصفية الحسابات مع دول المقاومة ومن أجل "إسرائيل".

يفسر كل ذلك التموضع الأميركي العسكري الجديد في الأردن المجاور لسوريا والعراق و"إسرائيل"، بعد أن نقلت واشنطن بعض قواتها من قطر، التي ما زالت فيها قاعدة العديد، وهي أهم قاعدة أميركية في المنطقة. كانت هذه القاعدة، وستبقى، مقراً للقيادة المركزيّة للقوّات الجويّة الأميركية في الشّرق الأوسط، وفيها 100 طائرة حربيّة استخدمتها القوات الأميركية ضد أفغانستان والعِراق وسوريا.

وفي جميع الحالات، وأيًا كانت نتيجة التحركات التركية في أفغانستان، وعبرها في البحر الأسود وبحر قزوين وكل الدول التي تطلّ عليها أو القريبة منهما، فقد بات واضحاً أن الرئيس التركي كان، وسيبقى، مصدر قلق بالنّسبة إلى الرئيس بوتين، وخصوصاً إذا نجحت أنقرة في علاقتها مع "طالبان". وقد تفاجأ الجميع باتفاقها مع الرئيس إردوغان الذي أعلن نفسه "حامي حمى الإسلام والمسلمين".

وقد تفكّر قيادات "طالبان" بدورها، وبوساطة قطرية، في التعاون معه، وخصوصاً إذا أثبت سلطته في جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصل التركي، وهي السلطة التي سعى من أجلها الرئيس الراحل تورغوت أوزال بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتمزقه. ويرى إردوغان في نفسه خليفة لأوزال، ومن قبله عدنان مندرس، الذي جعل تركيا "سمكة في الصنارة الأميركية" للفترة 1950-1960.

ولم يتجاهل إردوغان والآخرون الموقع الاستراتيجي لأفغانستان الغنية بالذهب والحديد والكوبالت والنحاس والأورانيوم والمعادن النادرة، ومنها النيوبيوم والموليبدانوم، والتي تستثمرها شركات صينية تسيطر على استخراج معظم المعادن النادرة في العالم وتصديرها، والتي يحتاجها الجميع في الصناعات الحسّاسة، بما فيها الطائرات الحربية والصواريخ.

ويبقى الرهان في نهاية المطاف على سياسات "طالبان" المحتملة، فإن بقيت على نهجها الذي كانت عليه قبل 20 عاماً، فالتاريخ سيكرر نفسه، وسيعود الجميع إلى اهتماماتهم بالحركات الإسلامية المتطرفة التي ازدادت شهرةً بوحشيَّتها بعد ما يُسمى بـ"الربيع العربي"، وخصوصاً في سوريا وليبيا والعراق والصومال واليمن، وبامتداد هذه الدول في أفريقيا والشرق الأوسط والبحرين الأحمر والأبيض ومنطقة الخليج.

وقد أثبت إردوغان أنَّ له باعاً طويلاً فيها كلّها، بعد أن نجح في إقامة وتطوير علاقات مميّزة مع جميع الحركات الإسلامية، السياسية منها والمسلحة، التي سبق للعديد من قياداتها أن تواجدت وقاتلت في أفغانستان. وكان لهذه القيادات علاقة مع "القاعدة"، ولاحقاً "طالبان"، التي يبدو واضحاً أنها، بتصرفاتها القادمة، ستقرر مصير أفغانستان ومستقبلها، وجميع الدول المجاورة لها أيضاً، ومعظمها ضمن حدود الحديقة الخلفية لروسيا.

قد يكون ذلك السَّبب "الشّيطاني الخفي" في قرار انسحاب واشنطن، التي تريد لروسيا أن تبتلي من جديد بأفغانستان كما ابتلت بها خلال الاحتلال السّوفياتي، وكانت تركيا آنذاك على الحياد، ولكنَّها هذه المرة ستكون طرفاً مباشراً، كما هو الحال في العديد من الجبهات، وهو ما أثبتته بنقل المرتزقة من سوريا إلى ليبيا وناغورنو كاراباخ. والآن، يتوقّع البعض لها أن تنقل أمثالهم إلى أفغانستان، وهو ما قد تفعله أميركا بنقل ما لديها من معتقلي "داعش" في سوريا والعراق إلى أفغانستان!