هل تنسحب واشنطن من الاشتباكات الجانبية وتتفرغ للصين وروسيا؟

لم يعد مستبعداً اتخاذ بايدن قراراً مغرياً لطهران، يُضمِّنَه تنازلاً يتعلق بإلغاء العقوبات عليها بحيث تجد إمكانية مناسبة لحضورها الاجتماعات مع دول (5+1).

  • مع كلّ هذا التّجاوب الأميركيّ إزاء إيجاد حل لملفات كانت جامدة بالنسبة إلى الإدارة السابقة، إلامَ ترمي واشنطن بايدن من وراء هذه الاستراتيجيّة؟
    مع كلّ هذا التّجاوب الأميركيّ إزاء إيجاد حل لملفات كانت جامدة بالنسبة إلى الإدارة السابقة، إلامَ ترمي واشنطن بايدن من وراء هذه الاستراتيجيّة؟

الرئيسية التي يمكن أن نميز بها استراتيجية الإدارة الأميركية مع بايدن هي فتح مواجهة غير عادية مع كل من الصين وروسيا مباشرة فور تسلمه السلطة، وحتى قبل أن يحصل أي تواصل دبلوماسي ذي صفة رسمية مع كل من الطرفين المذكورين، لكي يقال إنه ذهب إلى التصعيد بعد أن لمس عدم تجاوب منهما في ما خص الملفات المشتركة أو الملفات التي تؤثر أو تتأثر بها الدول الكبرى الثلاث.

وقبل أن يحصل أي اجتماع قمة أو اجتماع على مستوى وزراء الخارجية أو الدفاع مع أحد الطرفين، ومن دون أية مقدمات، وقبل أي سلام أو كلام، اكتشفت موسكو وبكين أن بايدن شن هجوماً واسعاً عليهما، وأنه يستعد لمواجهة متعمدة معهما.

وبالتوازي مع هجمته على الصين وروسيا، كان واضحاً أسلوب إعادة لم الشمل الذي اعتمده مع الاتحاد الأوروبي في الدبلوماسية التوددية أو في إعادة إحياء مناورات حلف شمال الأطلسي، مشدداً على مشاركة كل من تركيا وفرنسا واليونان، وفي اختياره إعادة إطلاق مناورات الحلف الذي أُسس على خلفية مواجهة روسيا اليوم (الاتحاد السوفياتي سابقاً)، عبر مناورة "ديناميك مانتا" في نهاية شباط/فبراير الماضي، وفي نقطة حساسة من شرق المتوسط تجمع أو تحضن أكثر خلافات دول الناتو بين بعضها البعض، اليونان وفرنسا وتركيا، وفي اختياره عنواناً للمناورة (للحماية من الغواصات أو للدفاع عنها)، قاصداً، وبشكل واضح، القدرات البحرية الروسية المنتشرة في شرق المتوسط على السواحل السورية أو المنتشرة في البحر الأسود.

وقد استطاع في ذلك إعادة توجيه بوصلة تلك الدول، وخصوصاً تركيا، نحو العدو التقليدي ماضياً، والبديهي حاضراً، والمفترض مستقبلاً: روسيا.

من جهة أخرى، وبمعزل عن طريقة مقاربته للملفات الأخرى المرتبطة بعلاقة واشنطن مع دول إقليمية فاعلة أو مؤثرة، مثل إيران أو تركيا أو السعودية، فإن الرئيس بايدن وضع خطة فورية تسهل إيجاد حل لتلك الملفات، وخصوصاً الملف النووي الإيراني أو ملف الحرب على اليمن أو ملف إعادة ترويض تركيا (إردوغان) أو استيعابها، وفي متابعة لحرارة الحراك الأميركي المتسارع في البحث عن حل جدي لتلك الملفات، وأيضاً بمعزل عن استعداده لأن يكون عادلاً أو لا، كعادة المسؤولين الأميركيين، وذلك من خلال طرح أكثر من مبادرة، افتتحها بإلغاء إدراج "أنصار الله" في لائحة الإرهاب، وبوقف تزويد السعودية بالأسلحة الهجومية التي تستعملها في عدوانها على اليمن، مع التحفظ على أهمية الموضوع حالياً، في ما لو كانت المملكة تملك مخزوناً كافياً من تلك الصواريخ لمتابعة استهدافاتها بالوتيرة نفسها أو بوتيرة أخف بنسبة بسيطة، وهو أمر مرجح.

وإضافةً إلى مقاربته الملف اليمني بهذا المستوى من المتابعة الجدية، كان واضحاً أنه يعطي أهمية لإعادة بحث العلاقة مع إيران في موضوع الاتفاق النووي أو في مواضيع أخرى يعتبرها مرتبطة به، على عكس ما تعتبر طهران طبعاً، نقصد قدراتها الصاروخية الباليستية ونفوذها في المنطقة.

وبعد رفض إيران العودة إلى حضور المفاوضات حول الاتفاق النووي بوجود واشنطن، وبرعاية الاتحاد الأوروبي وحضوره، وبعد تعبير الدبلوماسية الأميركية الصريح عن إحباطها بسبب عدم الموافقة الإيرانية، وسعيها لربط النزاع مع طهران ضمن الأطر الدبلوماسية، لم يعد مستبعداً اتخاذ الرئيس بايدن قراراً مغرياً للأخيرة، يُضمِّنَه تنازلاً واضحاً يتعلق بإلغاء كلّ العقوبات عليها أو جزء غير بسيط منها، تجد فيه إيران إمكانية مناسبة لحضورها تلك الاجتماعات مع دول الاتفاق (5+1).

مع كلّ هذا التّجاوب الأميركيّ إزاء إيجاد حل لملفات كانت جامدة بالنسبة إلى الإدارة السابقة، ومع هذه المقاربة المتساهلة، من خلال عدم إقفال أبواب الحل وظهورها بمظهر الجدي في البحث عن الحلول، كيف يمكن مقاربة الموضوع مقارنة مع تشددها غير السهل في ملفات الاشتباك التقليدية مع كل من روسيا والصين؟ وإلامَ ترمي واشنطن (بايدن) من وراء هذه الاستراتيجيّة؟

بالنسبة إلى الروس

إن إعادة لم شمل حلف الناتو تحمل في أساسها استهدافاً لروسيا، وخصوصاً أن هناك حراكاً سياسياً في دول الاتحاد الأوروبي أو في الدول الأوروبية التابعة لحلف شمال الأطلسي لإعادة إحياء الاشتباك مع روسيا في موضوع تدخلها في شرق أوكرانيا أو في إعادة نبش موضوع الدخول الروسي إلى شبه جزيرة القرم. وقد كان لافتاً في هذا الإطار الانتقاد التركي العلني لموسكو في الموضوع.
 أيضاً، هناك حركة ناشطة في دول شرق أوروبا (الأطلسيين) المتاخمة لروسيا، لإعادة نشر وتفعيل منظومات الدروع الصاروخية، التي كانت دائماً نقطة اشتباك حارة مع روسيا أو الاتحاد السوفياتي سابقاً، إضافة إلى حركة أميركية في تلك الدول أو لناحية الشمال، وامتداداً نحو القطب الشمالي عبر بحر بارنتس، تتمحور حول محاولة تطويق أو تخفيف فعالية التواجد النووي الروسي في تلك المنطقة عبر الغواصات النووية الروسية. وتدخل إجراءات كل من السويد والنرويج في السماح بنشر قدرات صاروخية ونووية أميركية على سواحلها وفي مياهها الإقليمية ضمن هذا الإطار.
 وفي الاتهام الأميركي والأوروبي لروسيا في موضوع عدم احترام حقوق الإنسان وقمع المعارضين، وتحديداً في قضية المعارض الروسي نافالني واتهام موسكو بتسميمه، وفرض عقوبات أميركية على مسؤولين روس مرتبطين بالقضية، واعتراض موسكو الشرس على الاتهام الأميركي والعقوبات، وتهديد الكرملين باتخاذ إجراءات مماثلة ورفع مستوى التصعيد مع واشنطن أو مع بروكسل، كل ذلك يؤشر إلى مستقبل حار من الاشتباك الروسي مع الناتو ومع الاتحاد الأوروبي في وقت غير بعيد.

بالنسبة إلى الصين

في بحر الصين الجنوبي، لا يمكن تجاوز حساسية وخطورة الاشتباك الأميركي الصيني حالياً حول النفوذ في بحر الصين الجنوبي، مباشرة عبر التحرشات غير الآمنة بين المدمرات الأميركية ونظيراتها الصينية، أو بطريقة غير مباشرة في تحريض واشنطن لدول حوض البحر المذكور على الاعتراض الرسمي على الصين أمام مؤسسات الأمم المتحدة، على خلفية بناء الأخيرة مئات الجزر الاصطناعية ومحاولة فرض ملكيتها أو حقوقها في المياه الاقتصادية الخالصة لمساحة ضخمة من بحر الصين الجنوبي.
أيضاً، في ملف حقوق الإنسان، ثمة تصويب أميركي كبير وفاعل لرفع منسوب الضغط على الصين، على خلفية علاقتها الصدامية مع هونغ كونغ أو على خلفية الإجراءات التعسفية الظالمة والتعامل غير القانوني مع الإيجور أو دعم الانقلاب على الحكم في ميانمار.

الاستنتاج

انطلاقاً من كل ذلك، لناحية جدية واشنطن واستعدادها لحل أو إنهاء الملفات الجانبية مع كل من إيران أو تركيا أو في ملف الحرب على اليمن، في الوقت الذي ترفع منسوب الاشتباك مع الصين وروسيا، يمكن أن نستنتج استراتيجيتها (واشنطن) للتفرغ لنقاط الصراع التاريخية معهما، والتي تعتبرها الأخطر والأكثر تأثيراً في الأمن القومي ومصالح الأميركيين، وذلك من خلال التوصل إلى علاقة هادئة، ما لم نقل ودودة، مع إيران، وإلى علاقة تحالفية نفعية وغير صدامية مع تركيا.

والأهم بالنسبة إلى واشنطن، كما يبدو، أنها تشدد في هذه الاستراتيجية المفترضة على أهمية الهدوء والأمن في باب المندب وبحر عمان ومضيق هرمز والبحر الأحمر، إذ سيصعب عليها إدارة صراع ضد عدة أطراف أقوياء أو مؤثرين في الاستراتيجية الإقليمية والدولية في الوقت نفسه.