إردوغان والكرد.. غرام مؤلم وطلاق مستحيل
يبدو أن غرام إردوغان مع كرد تركيا وسوريا كان قصيراً ومؤلماً، ولكن ليس بما يكفي للطلاق الأبدي الذي يعرف الجميع أنه مكلف للطرفين، بل لكل الأطراف في المنطقة.
تشهد تركيا منذ وقوع العملية الفاشلة لإنقاذ الرهائن الذين كانوا محتجزين لدى مسلحي حزب العمال الكردستاني شمال العراق سجالاً عنيفاً على جميع المستويات السياسية والأمنية والإعلامية والشعبية، وهو ما كانت تشهده أساساً منذ فترة طويلة، فقد حمّل زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو إردوغان مسؤولية هذا الفشل، واتهمه برفض العديد من الوساطات من أجل تحرير الرهائن سلمياً.
جاء رد إردوغان سريعاً، إذ قال عن كليجدار أوغلو إنه "وقح وغير مؤدب"، ثم رفع ضده دعوى قضائية، مطالباً إياه بتعويضات معنوية/ مادية بقيمة 500 ألف ليرة (70 ألف دولار)، بحجة أنه أساء إليه بصفته رئيساً للجمهورية، ثم اتهمه، ومعه وزير داخليّته سليمان صويلو والإعلام الموالي لهما، "بالإرهاب والخيانة الوطنية، بحجة أنه يتعاون ويتضامن مع حزب الشعوب الديمقراطي" الذي يعتبره الثنائي، ومعهما زعيم حزب الحركة القومية دولت باخشالي، "امتداداً لحزب العمال الكردستاني التركي الإرهابي".
ويستغلّ إردوغان وباخشالي وصويلو هذا الاتهام لتضييق الحصار على تحالف "الأمة" الذي يضم "الشعب الجمهوري" والحزب "الجيد"، محاولين التأثير في الأوساط القومية للحزبين اللذين حققا انتصاراً كبيراً في الانتخابات البلدية في حزيران/يونيو 2019، إذ صوَّت أنصار الشعوب الديمقراطي، وعددهم حوالى 6 ملايين في عموم تركيا، لمرشحي التحالف في إسطنبول وأنقرة و10 مدن كبيرة أخرى، وكان هذا الدعم سبباً كافياً لغضب إردوغان الّذي يشنّ منذ ذلك التاريخ حملة عنيفة ضد هذا الحزب، إرضاءً لحليفه دولت باخشالي، زعيم حزب الحركة القومية، الذي كان حتى صيف العام 2015 من ألدّ أعدائه، ومعه وزير الداخلية سليمان صويلو، الذي كان زعيماً للحزب الديمقراطيّ .
وتحوَّل العداء لحزب الشعوب الديمقراطي منذ ذلك التاريخ إلى مادة أساسية في مجمل أحاديث الرئيس إردوغان الداخلية والخارجية. وقد اتهمه وكل من يتعاون أو يتحالف معه بالإرهاب، أي العلاقة مع حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل الدولة التركية منذ 40 عاماً. وكانت هذه المادة، وما زالت، كافية لشحن الشعور القومي العنصري لدى الأوساط القومية، لا تلك المؤيدة لإردوغان فحسب، بل داخل أحزاب المعارضة أيضاً، لما لهذا الموضوع من خصوصيات تمس الأمن الوطني والقومي.
وجاء حادث مقتل الرهائن الأتراك في شمال العراق الأسبوع الماضي ليدفع إردوغان وحليفيه باخشالي وصويلو إلى أن يشنّوا معاً هجوماً عنيفاً على قيادات الشعوب الديمقراطي المتهمين بالذهاب إلى جبال قنديل شمال العراق ولقاء قيادات حزب العمال الكردستاني.
وجاء الرد سريعاً على لسان الرئيسة المشتركة للحزب بارفين بولدان التي كانت من بين الذين ذهبوا إلى قنديل، فقالت: "نعم، لقد ذهبنا إلى قنديل والتقينا قيادات الكردستاني، ولكن كان كل ذلك بعلم إردوغان والدولة التركية، حيث نقلنا لتلك القيادات رسائل من الرئيس التركي في أكثر من مناسبة"، وهو ما كان صحيحاً، لأن الأخير، ومع بدايات "الربيع العربي"، كان قد بدأ حواراً مباشراً وغير مباشر مع الحزب المذكور وزعيمه عبد الله أوجلان الموجود في السجن منذ شباط/فبراير 1999، بهدف التوصل إلى حل سلمي للمشكلة الكردية.
والأغرب في ذلك أن إردوغان ووزراءه وإعلامه كانوا قد شنّوا آنذاك هجوماً عنيفاً ضد أحزاب المعارضة التي اتهمته "بالتعاون مع العمال الكردستاني الإرهابي". وشهدت الفترة الممتدة منذ بدايات 2011 وحتى صيف 2015 سلسلة من التحركات الرسمية بتعليمات الرئيس إردوغان وعبد الله أوجلان، زعيم الكردستاني، إذ سمحت السلطات الرسمية لقيادات الشعوب الديمقراطي بزيارته في السجن بشكل دوري، كما سمحت له بأن يبعث رسالة مكتوبة قرأها أحد قادة الشعوب الديمقراطي في مهرجان ضخم في مدينة ديار بكر بمناسبة عيد النوروز في آذار/مارس 2015، قبل 3 أشهر من تدهور العلاقات بين الطرفين بسبب كرد سوريا.
وقد استنفر وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو كل إمكانياته لإقناع الرئيس المشترك للاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري صالح مسلم بالتمرد ضد دمشق، واعداً إياه بأن يحصل الكرد على ما يريدونه في سوريا الجديدة بعد إسقاط الرئيس الأسد. وقد دعي مسلم إلى تركيا عدة مرات، كما زار داوود أوغلو أربيل، والتقى مسعود البرزاني وصالح مسلم والقيادات الكردية السورية، ورافقه رئيس المجلس الوطني السوري المعارض عبد الباسط سيدا، وهو كردي الأصل. وجاء اختيار غسان هيتو (كردي الأصل أيضاً) رئيساً لما يسمى بحكومة المنفى التابعة للمجلس الوطني، في محاولة جديدة لدفع الكرد إلى التمرد، وهو ما فشل هيتو فيه، فعاد إلى أميركا التي جيء به منها.
وكان هذا الفشل الذي صادف انتصار وحدات حماية الشعب الكردية على داعش في عين العرب/ كوباني كافياً بالنسبة إلى أنقرة حتى تغير نهجها "السلمي" في العلاقة مع كردها وكرد سوريا، فتحول الود إلى عداء مع دخول القوات الأميركية على الخط في سوريا، وأعلنت أنقرة، على لسان إردوغان، الوحدات الكردية السورية تنظيماً إرهابياً، واتهمت كل من له علاقة بها بالإرهاب.
كان هذا الاتهام كافياً لاعتقال الرئيسين المشتركين لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش وفيكان يوكساكداغ، ومعهما 8 من أعضاء البرلمان السابقين، في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، وانضم إليهم في ما بعد الآلاف من قيادات الحزب وكوادره وأعضائه وأنصاره، بما في ذلك رؤساء البلديات الذين انتخبوا في آذار/مارس 2019، وهم جميعاً في السجون.
كما حمّل الرئيس إردوغان واشنطن والعواصم الغربية مسؤولية الوضع الحالي في شمال شرق سوريا، حيث الدعم المستمر من هذه العواصم لوحدات حماية الشعب الكردية التي باتت تشكل خطراً جدياً على تركيا، بعد أن امتلكت كل أنواع الأسلحة الثقيلة، من دون أن يمنع هذا الوضع أنقرة من الاستمرار في التحالف مع هذه العواصم، وخصوصاً الرئيس ترامب، الذي بعث لإردوغان رسالة شخصية ومهينة توعده فيها إذا اعتدى على كرد سوريا.
وكان هذا التناقض في العلاقة مع العواصم الغربية في موضوع الكردستاني وذراعه السورية امتداداً لتناقضات إردوغان الداخلية، إذ يتوعّد قيادات الشعوب الديمقراطي، ويضع البعض منها في السجون، ويهدد بحظر نشاط الحزب، إلا أنه لن يفعل ذلك، والسبب بسيط، ذلك أنه بحاجة إلى مادة يحافظ من خلالها على سخونة الشعور القومي لدى أنصاره وأتباعه، بعد أن بينت الاستطلاعات تراجع شعبيته وشعبية حزبه بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية وقضايا الفساد الخطيرة.
وتقول المعارضة إنَّ إردوغان يريد للشعب أن لا يفكر في هذه الأزمات، وأن يبقى مشغولاً بالتوتر مع الكرد تارة، ومع أعداء الأمة والدولة التركية في الخارج تارة أخرى. ويقول إردوغان عنهم جميعاً إنهم يدعمون الإرهاب والإرهابيين، أي العمال الكردستاني تركياً وسورياً.
ويعتمد إردوغان في حربه هذه على وسائل الإعلام التي يسيطر على 95% منها، والتي أثبتت نجاحها في تلفيق القصص والأكاذيب من دون تعب وملل، انطلاقاً من مقولة وزير الدعاية السياسية الهتلرية جوبل: "أعطني إعلاماً بلا ضمير، أعطِك شعباً بلا وعي"، ومقولته: "كرر أكاذيبك من دون ملل، إلى أن يصدقك الآخرون. وكلما كانت أكاذيبك كبيرة كان تصديقها أسهل"، وهذا هو حال أنقرة في العلاقة مع كردها، والآن مع كرد سوريا. ويبدو أن غرام إردوغان معهم كان قصيراً ومؤلماً، ولكن ليس بما يكفي للطلاق الأبدي الذي يعرف الجميع أنه مكلف للطرفين، بل لكل الأطراف في المنطقة!