بعد إدلب والكرد.. ماذا عن الفرات ودجلة؟
تضع الأوساط التركية الرسمية العديد من السيناريوهات في ما يتعلق بالسياسات المائية التي تتضمّن دراسات جدية حول مصادر المياه، ومنها الأمطار والمياه الجوفية، إضافةً إلى الأنهار المذكورة التي يزيد عددها على 100 نهر.
بعد أن أصبحت تركيا طرفاً أساسياً في مجمل تطورات الملف السوري مع سنوات ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وضعت أنقرة العديد من السيناريوهات والحسابات لعلاقاتها المستقبلية مع دمشق، وعبرها مع باقي دول المنطقة، وفي مقدمتها العراق المجاور لتركيا وسوريا وإيران.
وتأتي مياه الفرات ودجلة والأنهار الصغيرة الأخرى (حوالى 12 نهراً مع سوريا و3 مع العراق) ضمن هذه الحسابات، وخصوصاً مع استمرار مواسم الجفاف التي يبدو أنها ستنعكس بشكل أو بآخر على سياسات أنقرة المائية مستقبلاً مع الدولتين المذكورتين.
وكانت مياه الفرات دائماً مادة مهمة في المساومات التركية مع سوريا والعراق معاً أو على انفراد، منذ أن بدأت تركيا ببناء السّدود على نهر الفرات، وأولها سدّ كابان الذي تمّ افتتاحه في العام 1974، ثم سدّ كاراكايا في العام 1987. وكان سدّ أتاتورك الذي تمّ افتتاحه في العام 1991 هو الأهم في أزمة المياه بين تركيا وكل من سوريا والعراق، وخصوصاً بعد أن قال رئيس الوزراء سليمان ديمريل في العام 1991 "إن الدول العربية تبيع نفطها، فلماذا لا نبيع أيضاً مياهنا؟".
وقد أصرّت أنقرة منذ البداية على بناء السّدود بعد أن رفضت التوقيع على الاتفاقية الدولية (1997) التي تنظم عملية الاستخدام المشترك لمياه المجاري الدولية المشتركة، ومنها النيل والفرات ودجلة، وهي تقول إنّ الأخيرين نهران تركيان عابران للحدود، وليسا نهرين مشتركين، ومن حقّها التصرف بمياهها كما تشاء، مع مراعاة مصالح دول المصب.
تعود جذور أزمة المياه التركية مع سوريا والعراق إلى العام 1920، عندما تم التوقيع على اتفاقيات "ثلاثية وثنائية" بين وتركيا وكل من سوريا (مستعمرة فرنسية) والعراق (مستعمرة بريطانية) لتقسيم المياه وفق المعايير الدولية المتبعة آنذاك. وتضمّنت اتفاقية "لوزان" (1923) التي اعترفت الدّول الغربية بموجبها بالجمهورية التركية الحديثة، وريثة الدولة العثمانية، بنداً خاصاً بنهري دجلة والفرات جاء فيه: "لا يحق لأية دولة من هذه الدول الثلاث إقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر من دون أن تنسق مع الدول الأخرى لضمان عدم إلحاق الأذى بمصالحها".
ومع استقلال سوريا والعراق، بقيت المياه مشكلة أساسية تعرقل إقامة علاقات ودية دائمة بين الدول الثلاث التي لديها ما يكفيها من المشاكل الأخرى التي منعتها من تطوير العلاقات في ما بينها، مع استمرار الشكوك السورية والعراقية دائماً باحتمالات أن يستخدم الجانب التركي المياه كسلاح ضدها.
وقد بيّنت وثائق السفارة الأميركية في طهران (4 تشرين الثاني/نوفمبر 1979) "أن المخابرات الأميركية CIA اقترحت على مدير عام مؤسسة المياه الوطنية سليمان ديميريل في العام 1955-1956 بناء سدود كبيرة على الفرات، لتكون سلاحاً بيد أنقرة ضد سوريا التي كانت علاقاتها سيئة آنذاك مع تركيا".
ويفسر ذلك فشل الاتفاقية التي وقع عليها الرئيس تورغوت أوزال في العام 1987 مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، بعد أن تأثرت بالتوترات التي شهدتها العلاقات بين البلدين، بسبب اتهام أنقرة لدمشق بدعم حزب العمال الكردستاني، إذا ما تجاهلنا قضية لواء الإسكندرون ذات التأثير النفسيّ.
وقد تعهّد الجانب التركي وفق اتفاقيّة 1987 بترك 500 متر مكعب في الثانية من مياه الفرات لكل من سوريا (42%) والعراق (58%)، على أن تزداد هذه الكمية لتصل بعد 5 سنوات إلى 650 متراً مكعباً، مقابل تخلي دمشق عن هذا الدعم، من دون أن تمنع هذه الاتفاقية أنقرة من بناء سدي بيراجيك (50 كم عن الحدود مع سوريا) وقرقميش (على بعد 3 كم من الحدود السورية) وسدين على نهر دجلة، فيما تخطط مؤسسة المياه الوطنية لبناء ما مجموعه 22 سداً على النهرين المذكورين، لتصل كمية المياه التي سيتم تخزينها في هذه السدود إلى حوالى 140 مليار متر مكعب.
وتخطّط أنقرة لريّ 1.8 مليون هكتار من الأراضي الزراعية بهذه المياه، كما تهدف إلى توليد 27 مليار كيلو واط /ساعة من الكهرباء (23% من استهلاك تركيا) من هذه السدود، إضافةً إلى حوالى 750 سداً بمختلف الأحجام (550 منها سد كبير) بنتها تركيا على عشرات الأنهار الصغيرة والكبيرة، ويزيد طولها داخل الحدود التركية على 20 ألف كم.
وجاءت أقوال الرئيس إردوغان الأسبوع الماضي، إذ قال "إن تركيا ليست غنية بالمياه، كما يعتقد البعض"، لتثير العديد من التساؤلات حول احتمالات استخدام المياه كسلاح في مساومات أنقرة المحتملة مع سوريا والعراق، والأهمّ مع "قسد" ووحدات حماية الشعب الكردية التي تسيطر على شرق الفرات بدعم من واشنطن، التي تتخوّف أنقرة من أن تسعى إلى إقامة كيان كردي مستقل في المنطقة، كما هو الحال في الشمال العراقي.
وتضع الأوساط التركية الرسمية العديد من السيناريوهات في ما يتعلق بالسياسات المائية التي تتضمّن دراسات جدية حول مصادر المياه، ومنها الأمطار والمياه الجوفية، إضافةً إلى الأنهار المذكورة التي يزيد عددها على 100 نهر.
وتقدّر هذه الدراسات الطاقة الإجمالية للمياه السطحية (الأمطار) والجوفية التي يمكن الاستفادة منها بحوالى 115 مليار متر مكعب، يتم استغلال حوالى 60 مليار متر مكعب منها سنوياً. ودفعت هذه الأرقام أنقرة إلى تنفيذ العديد من المشاريع لبناء السدود الجوفية، وهي تقنية جديدة تساهم في تخزين المياه الجوفية، كما هو الحال في الأنهار التي تبني عليها أنقرة سدودها.
ولم تمنع هذه الحسابات أنقرة من الاستمرار في بناء مئات السدود على عشرات الأنهار التي تنبع في أراضيها وتصب في البحار (إيجة والأبيض المتوسط ومرمرة والأسود)، أو تغادرها إلى دول مجاورة أخرى، ومنها إيران وجورجيا وأرمينيا وبلغاريا واليونان، أو تأتيها من هذه الدول، في الوقت الذي نجحت تركيا في مد الأنبوب (80 كم) الذي ينقل المياه تحت البحر (75 مليون متر مكعب سنوياً) إلى شمال قبرص التركية مع حسابات لبيع هذه المياه للقبارصة اليونانيين، وحتى "إسرائيل"، فقد فشل الرئيس الراحل تورغوت أوزال في مشروعه لمد أنابيب المياه إلى "إسرائيل" مروراً بسوريا ولبنان، وأنبوب آخر يمتد إلى دول الخليج عبر الأردن لبيع مياه نهري سايهان وجايهان لهذه الدول.
وترى العديد من الدراسات الأكاديمية في الغرب في المعطيات التركية سبباً كافياً لتخوّف كل من العراق وسوريا من الانعكاسات المحتملة لسياسات أنقرة مع الدولتين المذكورتين بالعنصر الكردي فيهما، فالجميع يعرف أن تنفيذ أنقرة مشاريعها على نهري الفرات ودجلة والأنهار الصغيرة الأخرى سيضع العراق وسوريا أمام تحديات جدية ستكون لها انعكاسات خطيرة على الزراعة والأمن الغذائي ومياه الشرب وتوليد الطاقة، وخصوصاً مع التقلبات البيئية التي تهدد بسنوات الجفاف، وفق كل الدراسات العلمية عالمياً.
ومع استمرار أنقرة في سياساتها الحالية في سوريا والعراق، بات واضحاً أنها، عاجلاً أم آجلاً، ستستخدم المياه كورقة مؤثرة في مساوماتها مع دمشق وبغداد والكرد، المستفيد الأول من مياه الفرات ودجلة وباقي الأنهار الصغيرة، باعتبار أن السدود السورية في "قسد". ويفسر ذلك تواجد أنقرة في عفرين (نهر عفرين) غرب الفرات عموماً، إضافةً إلى المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض، حيث العديد من الأنهار التركية الصغيرة التي تدخل منها إلى سوريا، من دون أن نتجاهل تواجدها في جرابلس، مدخل الفرات إلى سوريا، ومحاولتها السيطرة على عين العرب (كوباني)، وهي على الضفة الشرقية للنهر، وهو الحال في شمال العراق، إذ نجحت تركيا في إقامة العديد من القواعد العسكرية في الجبال الاستراتيجية المطلة أو القريبة من المجاري المائية، ومنها دجلة والزاب الكبير.
ويبقى الرهان أو الأمل في احتمالات العودة إلى علاقات الصداقة بين أنقرة وكل من دمشق وبغداد، وحتى إيران، وهي أيضاً طرف في قضية المياه، وخصوصاً مع العراق، فبعد أن نجحت أنقرة بعد العام 2003 في إقامات علاقات ودية مع سوريا والعراق وإيران وباقي دول المنطقة، أعلن الرئيس إردوغان، وقبله الرئيس عبد الله جول، أكثر من مرة، أنه "لم تعد هناك ما يسمى بمشكلة المياه مع الجارتين المذكورتين، ليعود ما بين النهرين من جديد مهداً للحضارات التي عاشت فيها قبل آلاف السنين"، وهو الكلام الذي أصبح في مهب الريح، كما أصبحت مشاعر الأخوة والصداقة بين أنقرة وكل من بغداد ودمشق في ذاكرة النسيان، بعد أن نجحت سياسات "تصفير المشاكل مع الجيران" في "تصفير الجيران"، وستكون المياه قريباً همها الأصعب!