تركيا إردوغان.. الهجوم خير وسيلة للدّفاع!
يرى إردوغان في تواجده في أذربيجان خندقاً متقدماً للدفاع عن الأمن القومي التركي، والذي يتطلّب بالضرورة مدّ هذا الخندق إلى مواقع متقدمة في اتجاهات متعددة، وهذا هو الحال في سوريا.
مضى أكثر من 17 عاماً على شعار "صفر مشاكل مع الجيران" الَّذي رفعه أحمد داوود أوغلو، "مهندس السياسة الخارجية التركية"، بعد استلام حزب "العدالة والتنمية" السلطة في نهاية العام 2002، كما مضى 3 سنوات و7 أشهر على استقالة داوود أوغلو أو طرده (5 أيار/مايو 2016) من قيادة الحزب ورئاسة الحكومة بعد خلافه مع الرئيس رجب طيب إردوغان، وهو ما دفعه إلى تشكيل حزب "المستقبل" في 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 للانتقام من زعيمه، ولكن من دون أن يعترض في الإطار العام على سياساته الخارجية التي خلقت لتركيا المشاكل دائماً بدلاً من أن تصفرها، وخصوصاً مع دول الجوار، وفي مقدمتها سوريا والعراق، ومن خلالهما إيران، ولو بالحد الأدنى من التحديات، بسبب دورها في الدولتين المذكورتين.
وكما كانت دمشق بوابة إردوغان الرئيسية للانفتاح الإيجابي على المنطقة العربية اعتباراً من العام 2003، فقد كانت سوريا ساحة الانطلاق التركية أولاً في الشرق الأوسط، وبالتالي في مجمل ساحات التواجد التركي في الشمال الأفريقي وشرقه، ليس عسكرياً فحسب، بل استخباراتياً وأمنياً واقتصادياً ومالياً أيضاً، والأهم عقائدياً، وهو الجانب الذي أولاه إردوغان أهمية خاصة في مجمل تحركاته في منطقة البلقان، كما أولى الجانب القومي أهمية خاصة خلال الدور الذي أدته تركيا في الحرب الأذربيجانية - الأرمينية.
وقد أكسب ذلك أنقرة موطئ قدم متقدماً للانطلاق منها لاحقاً إلى آسيا الوسطى، حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، ومنها أيضاً إلى الأقليات المسلمة ذات الأصل التركي في جمهوريات الحكم الذاتي داخل حدود روسيا الفيدرالية، ومنها أيضاً إلى أذربيجان الجنوبية داخل حدود إيران، من دون أن تتجاهل الأهمية الجيوسياسية والجيوعسكرية لكلّ من البحر الأسود وبحر قزوين الغني بالغاز والبترول، وهما معاً حديقة خلفية "للصديق العدو" روسيا.
ويرى الصحافي فهيم تاشتكين في هذا الأسلوب العسكري التركي "نهجاً توسعياً جديداً تحت شعار الهجوم أنجح وسيلة للدفاع"، ما دام الطرف الآخر هو الذي سيتكبَّد الخسائر، ما يعني أنّ إردوغان يرى في تواجده العسكري والأمني والاستخباراتي والقومي في أذربيجان خندقاً متقدماً للدفاع عن الأمن القومي التركي، والذي يتطلّب بالضرورة مدّ هذا الخندق إلى مواقع متقدمة في اتجاهات متعددة، وهذا هو الحال في سوريا، إذ ترى العقلية الجيوسياسية التركية في عفرين وشرق الفرات خندقاً أمامياً ومتقدماً للدفاع عن أنقرة، كما ترى في أمن عفرين جزءاً لا يتجزأ من أمن إدلب، وأمن إسكندرون جزءاً من أمن قبرص، وأمن قبرص امتداداً لحساباتها في ليبيا، وهي بالتالي جزء لا يتجزأ من مجمل الحسابات التركية شرق الأبيض المتوسط وبحر إيجة وجنوب أوروبا.
ويعني ذلك ويتطلّب بالضرورة الحرب ثم الحرب على جميع الجبهات، ولا هدوء فيها إلا بفتح جبهات أخرى، وهو ما تفعله أنقرة باستمرار. ويفسّر ذلك قرار الرئيس إردوغان بإرسال سفن البحث والتنقيب عن الغاز في جوار قبرص، متجاهلاً تهديدات الاتحاد الأوروبي وأميركا، كما يفسر الاتفاقية التي وقعتها أنقرة مع حكومة الوفاق لترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، والتي تتقاطع مع الحدود التي رسمتها الاتفاقية اليونانية - المصرية. ولم تبالِ أنقرة بالتوترات التي شهدتها المنطقة الصيف الماضي بسبب هذه الخلافات والوضع في قبرص، التي يرى فيها الرئيس إردوغان ضمانة استراتيجية لكل مشاريعه ومخططاته في المنطقة، بما فيها سوريا ولبنان.
ووفقاً لهذه الرؤية، فإنَّ الانسحاب من قبرص القريبة من الدولتين المذكورتين سيعني في نهاية المطاف الانسحاب إلى خليج أنطاليا، وهو ما سيشكل خطراً على مجمل حسابات الأمن القومي الاستراتيجي لتركيا، وهو ما يعني، والكلام أيضاً للصحافي فهيم تاشتكين، "أن الدفاع عن هاتاي (لواء إسكندرون) يجب أن يكون من داخل الأراضي السورية، أي عبر التواجد العسكري التركي غرب الفرات".
وقد يفسر ذلك أحاديث الرئيس إردوغان المتكررة عن حدود ما يسمى بالميثاق الوطني للعام 1920، والذي يرى في الشمال السوري جزءاً من تركيا. كما أن الدفاع عن التواجد التركي في سوريا يجب أن يكون من شرق الأبيض المتوسط، وطرابلس الليبية شرط أساسي للدفاع عن التواجد الاستراتيجي في المنطقة عموماً شرقاً وغرباً وجنوباً، ولو أدى ذلك إلى المزيد من التوترات والحروب.
ويفسر ذلك تدهور علاقات أنقرة مع جميع دول المنطقة باستثناء قطر، وهي المخفر المتقدم للحسابات التركية التي كان يتمنى لها رئيس تحرير صحيفة "يني شفق"، إبراهيم كاراجول، المقرب جداً من إردوغان، "أن تساهم في تحرير مكة والمدينة من احتلال آل سعود"، في الوقت الذي يرى آخرون في ليبيا مخفراً متقدماً للحسابات التركية العقائدية (الإخوانية) باتجاه مصر وتونس والجزائر والسودان، ومن أجل المزيد من الساحات التي ترى فيها الدول الغربية نهجاً توسعياً يذكّر "بالفتوحات العثمانية" التي يستشهد بها الرئيس إردوغان باستمرار.
ويفسر ذلك الاهتمام التركي الواسع والشامل بمنطقة البلقان، انطلاقاً من ساحتها الرئيسية البوسنة التي ساعدت إردوغان للتحرك من خلالها في دول المنطقة التي يعيش فيها المسلمون بكثافة، كألبانيا وكوسوفو وبلغاريا ومقدونيا، بل وحتى العدو التقليدي والتاريخي اليونان.
كل ذلك من دون أن يبالي الرئيس إردوغان بكل مشاكله، بل وحتى التهديد بالعقوبات الأوروبية والأميركية، ما دام يعتقد أنه حقّق مكاسب كبيرة في مجمل تحركاته هذه، والتي جعلت منه ومن تركيا عنصراً مهماً لا يمكن لأحد أن يتجاهله، "ومن دون أن يفكر بالمخاطر المحتملة لمثل هذه السياسة ذات الطابع التوسعي"، والقول لتاشتكين، والتي قضت على آمال العودة إلى مقولة صفر مشاكل، ليس مع الجيران فحسب، بل مع جيران الجيران أيضاً.
كما لم يذكّر أحد الرئيس إردوغان بالمقولة الشهيرة التي تقول: "إن الطريق الذي تريد له أن يوصلك إلى كل مكان هو في النهاية لا يصل إلى أيّ مكان".
وقد يكون ذلك حال السياسة الخارجية التركية بطابعها العقائدي والعسكري والاستخباراتي والسياسي، والتي خلقت لأنقرة ما يكفيها من المشاكل مع معظم دول العالم، وخصوصاً تلك التي كانت ترى في "العدالة والتنمية" نموذجاً ديموقراطياً حضارياً قد يساعد دول المنطقة وشعوبها لمعالجة العديد من مشاكلها، فأدى هذا النموذج دوراً معاكساً مع ما يسمى بـ"الربيع العربي"، الذي أراد له الرئيس إردوغان أن يساعده على تحقيق أهدافه الشخصية، ما دام يسعى إلى أن يكون زعيماً سياسياً وروحياً لكل المسلمين والإسلاميين في العالم، ولكن في المنطقة أولاً، وهو ما تحقّق له نسبياً عبر دوره في سوريا منذ البداية، وبشكل خاص بعد دخول الجيش التركي إلى جرابلس في آب/أغسطس 2016، وبضوء أخضر روسي، كما هو الحال في كاراباخ.
ومع انتظار مرحلة ما بعد بايدن، يبدو واضحاً أنّ الرئيس إردوغان سيواجه المزيد من المشاكل في علاقاته مع واشنطن، التي ستؤدي بمواقفها المستقبلية دوراً مهماً في تحديد مسار كل السياسات التركية، التي لن يكون سهلاً على إردوغان، إن لم يكن مستحيلاً، أن يتراجع عنها.
والسبب في ذلك بسيط، لأن ذلك سيعني تراجعه عن مجمل سياساته في الداخل، وهو أيضاً من المستحيلات السبعة، بعد أن سيطر على كل شيء في البلاد، وتخليه عنها سيعني تخليه عن السلطة، وهذا بدوره ليس حتى في عداد المستحيلات!