بعد ليبيا وسوريا.. هل يواجه إردوغان بوتين في أرمينيا؟

لأذربيجان أهمية استراتيجية وهي همزة الوصل بين جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ذات الأصل التركي وبين تركيا العدو التاريخي لروسيا وإيران، وهما معاً جارتان لأذربيجان وأرمينيا، بقربهما من البحر الأسود، حلم الأميركيين الأكبر.

  • صورة تظهر قصف مدفعي أذربيجاني على مواقع للأرمن في ناغورني كاراباخ (أ ف ب).
    صورة تظهر قصف مدفعي أذربيجاني على مواقع للأرمن في ناغورني كاراباخ (أ ف ب).

مع الهدوء النسبي الّذي يخيّم على الوضع في سوريا وليبيا بعد الضغوط الأميركية والألمانية على الأطراف الليبيين، يتوقّع الكثيرون للرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن يواجه هذه المرة "صديقه وعدوه" الرئيس بوتين في القوقاز، وتحديداً عبر التوتر الأرمني - الأذربيجاني، بسبب إقليم ناغورني كاراباخ الذي كنت الصحافي الأول الذي غطَّى معاركه خلال الأعوام الممتدة بين 1991-1993.

بعد 45 يوماً من التوتر الذي شهدته الحدود الأذربيجانية مع إقليم ناغورني كاراباخ الذي يسيطر عليه الأرمن، شهدت هذه الحدود من جديد مواجهات ساخنة بين الطرفين، وهو ما كان متوقعاً بعد المناورات التركية-الأذربيجانية التي بدأت بعد المواجهات المذكورة بأسبوعين، واستمرت 3 أسابيع براً وجواً. وتحدّثت المعلومات آنذاك عن مساعدات عسكرية كبيرة قدمتها أنقرة لأذربيجان خلال المناورات وبعدها، وبشكل خاص تسليمها عدداً كبيراً من الطائرات المسيرة بالسلاح أو من دونه، والتي يقوم بتصنيعها سلجوق بايراقدار؛ صهر الرئيس إردوغان. 

وكانت المعلومات تتحدث آنذاك أيضاً عن دعم إسرائيلي لأذربيجان، التي تحصل على معدات عسكرية واستخباراتية من "إسرائيل"، التي ترى في هذا البلد المسلم مخفراً متقدماً لمخططاتها العدوانية ضد إيران؛ البلد الذي يعيش فيه حوالى عشرين مليوناً من أصل أذري، وضعت "إسرائيل" من أجلهم حسابات خاصة.

كما تولي تل أبيب علاقاتها مع الجارة جورجيا وتواجدها فيها أهمية كبيرة، لا في مخططاتها الخاصة مع إيران فحسب، بل روسيا أيضاً، باعتبار أن أذربيجان بلد غني بالنفط والغاز، ويطل على بحر قزوين، ويصدر غازه وبتروله إلى ميناء جيهان التركي عبر أراضي جورجيا.

وتغطي "إسرائيل" حوالى 40% احتياجاتها من البترول من هذا الأنبوب، إذ تقوم ناقلات النفط بنقله من جيهان إلى ميناء حيفا، مع استمرار الحديث عن مشاريع أخرى لنقل الغاز والبترول من كازاخستان وتركمنستان أيضاً إلى هذا الميناء، ومنه إلى أوروبا، في الوقت الذي يعرف الجميع دور رجال الأعمال اليهود وثقلهم في أذربيجان، وهم يحملون الجنسية الإسرائيلية والروسية أيضاً، مع حسابات تل أبيب الخاصة بحوالى مليون يهودي من أصل روسي يعيشون في "إسرائيل"، التي وضعت العديد من الحسابات ضد روسيا، لأنها تعرقل مشاريعها في سوريا وإيران والمنطقة العربية عموماً، وهي الحسابات التي وضعها أيضاً الرئيس إردوغان في مواجهة المضايقات الروسية التي يتعرض لها في سوريا وليبيا والمنطقة عموماً.

ولم يمنع ذلك الرئيس إردوغان من الاستفادة من كل هذه التناقضات العربية والإقليمية في الشرق الأوسط، والآن في القوقاز، بعد أن اضطر إلى التراجع في أزمته مع اليونان وقبرص بسبب الضغوط الأميركية والألمانية والاتحاد الأوروبي، إذ أعلن إبراهيم كالين عن استعداده للتنسيق والتعاون مع باريس في موضوع ليبيا والمواضيع الأخرى، ومنها من دون شك التوتر مع اليونان وقبرص.

ولا تتجاهل الأوساط الدبلوماسية احتمالات سكوت موسكو (إلى متى؟!) على التحركات العسكرية الأذربيجانية الأخيرة لإحراج رئيس الوزراء الأرميني نيكولا باشينيان، الذي سبق له أن تودّد لأميركا والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، الذي لم يحرك ساكناً طيلة 29 عاماً مضت ضد سيطرة الأرمن على إقليم ناغورني كاراباخ المتنازع عليه مع أذربيجان، فقد كان الإقليم، وهو منطقة جبلية وعرة ذات أغلبية أرمنية، يتمتع بحكم ذاتي داخل حدود أذربيجان في العهد السوفياتي. وبسقوطه في العام 1991، سيطر الأرمن على المنطقة، كما احتلوا 6 مدن أذربيجانية صغيرة قرب الإقليم الذي فشل في مساعيه للحصول على اعتراف دولي به ككيان مستقل أو حكم ذاتي.

كما فشلت أذربيجان في مساعيها لإقناع الأرمن أو إجبارهم على الانسحاب من أراضيها المحتلة خارج الإقليم، وهو ما تسعى إليه الآن بدعم سياسي وعسكري كبير من تركيا، التي استنفرت كل إمكانياتها العسكرية لحسم هذه القضية، في الوقت الذي لا يتجاهل أحد الجانب التاريخي لهذه القصة، باعتبار أن الأرمن يرون في تركيا العدو الأكبر لهم، ويتهمونها، بصفتها وريثة الدولة العثمانية، بالقيام بإبادة جماعية ضدهم إبان الحرب العالمية الأولى وخلالها، وهو ما ترفضه أنقرة دائماً، وتقول إن الأرمن تحالفوا مع روسيا ضد الدولة العثمانية التي كانوا مواطنين فيها.

واكتسبت الأحداث الأخيرة أهمية إضافية، لأنها جاءت بعد معلومات المرصد السوري الذي تحدث عن نقل المئات من المرتزقة السوريين من فصيل السلطان مراد والسلطان سليمان، وغالبيتهم من التركمان السوريين وبعض العناصر القومية التركية، إلى أذربيجان، ونشرهم على طول الحدود مع إقليم كاراباخ، وهو ما سيزعج موسكو التي لا تخفي قلقها من احتمالات تسلل بعضهم (ما زال في إدلب الآلاف من المسلحين من أصول شيشانية وغيرها) إلى جورجيا المجاورة لداغستان والشيشان، ومنها إلى مناطق أخرى داخل حدود روسيا الفدرالية التي تسكنها أغلبية مسلمة. 

ويفسر ذلك إعلان أوكرانيا فوراً تأييدها لأذربيجان، في إشارة واضحة منها ضد موسكو التي ضمَّت شبه جزيرة القرم إليها، وفيها أيضاً أقلية مسلمة ذات أصول تركية يلتقي الرئيس إردوغان قياداتها باستمرار، بعد أن أعلن أكثر من مرة رفضه القرار الروسي. 

كما جاءت التطورات الأخيرة بعد المعلومات التي تحدثت عن فتور وتوتر في العلاقة بين موسكو وأنقرة، بعد أن رفض الجانب التركي طلباً روسياً لسحب القوات التركية من نقاط المراقبة بجوار إدلب وبعض المناطق الأخرى غرب الفرات، في الوقت الذي تناقضت المصالح التركية-الروسية في ليبيا، وخصوصاً بعد التدخل الأميركي وإجبار الأطراف المتقاتلين فيها على الجلوس إلى طاولة الحوار، والاتفاق على صيغة تساعدهم على إنهاء الأزمة بعد طرد كل القوات الأجنبية وجميع المرتزقة من هناك، والمقصود بها بالدرجة الأولى تركيا ثم روسيا.

وفي جميع الحالات، وأياً كانت نتيجة الأحداث الأخيرة، يبدو واضحاً أن الرئيس إردوغان لن يتراجع عن موقفه في كاراباخ، وسيستمر في مقولاته الحماسية دينياً وقومياً، وسيسعى هناك من أجل تحقيق انتصار كبير يساعده على رفع معنويات أتباعه وأنصاره في الداخل، حيث تتفاقم تداعيات الأزمة المالية الخطيرة، وهو ما يفسر الحملة الإعلامية العنيفة ضد الأرمن، إذ يطالب الإعلام الموالي الجيش التركي "بقصف العاصمة الأرمنية ياريفان بالصواريخ، وتلقين الأرمن الدرس الذي يستحقونه، وتحرير كل الأراضي الأذربيجانية المحتلة".

كما سيكون مثل هذا الانتصار المحتمل مهماً بالنسبة إلى الرئيس الأذربيجاني، إلهام عالييف، الّذي يواجه اتهامات خطيرة في ما يتعلّق بقضايا فساد طالته وأفراد عائلته، وبشكل خاص زوجته ميهريبان، التي تشغل في الوقت نفسه منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، ويقال عنها إنّها وبناتها يتحكّمن بالحصة الأكبر من دخل البلاد من البترول والغاز الذي يوليه الرئيس إردوغان أهمية كبيرة في مجمل حساباته الخارجية. 

ولم يهمل أحد الأهمية الاستراتيجية لأذربيجان، وهي همزة الوصل بين جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ذات الأصل التركي (كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزيا وتركمنستان)، وبين تركيا العدو التاريخي والتقليدي لروسيا القيصرية وإيران الفارسية، وهما معاً جارتان لأذربيجان وأرمينيا، بقربهما معاً من البحر الأسود، حلم الأميركيين الأكبر. 

وقد بات واضحاً أن هاتين الدولتين ستكونان مسرحاً جديداً للصراعات المعقدة بأطرافها المتعددة، كما هو الحال في سوريا وليبيا وأماكن أخرى في المنطقة، التي يقول عنها الرئيس إردوغان "إن أقدام العثمانيين وطئتها، وهو لن يتخلى عنها".

هذا هو سر كل السياسات التركية منذ ما يسمى بـ"الربيع العربي"، الذي قيل عنه إنه بدأ لتسويق تجربة العدالة والتنمية في بلد مسلم ديموقراطي علماني إلى دول المنطقة، فحدث ما حدث. لقد اعتقد الرئيس إردوغان أن هذا الربيع سيساعده على إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية التي يحلم بها، ومن أجلها قام بما قام ويقوم به في الداخل والخارج، بعد أن أصبح الحاكم المطلق لتركيا من دون أي منازع أو منافس أو معارض يقول له إن المستفيد الوحيد من هذا الربيع هو "إسرائيل" فقط!