كاراباخ... ماذا تعلّم الأرمن من التاريخ؟
مع الرهان على رد الفعل المحتمل لباشينيان الذي يقال إنه سيدخل في تحالفات عسكرية رسمية مع واشنطن لإزعاج موسكو، فقد بات واضحاً أن منطقة القوقاز مرشحة لتطورات مثيرة.
في الحرب الأخيرة التي جرت في الفترة من أيلول/سبتمبر وحتى تشرين الثاني/نوفمبر 2020 استطاع الجيش الأذربيجاني تحرير 6 مدن مع قراها، وكان الأرمن قد احتلوها خلال اجتياحهم لإقليم كاراباخ في الفترة من 1992-1993 بعد أن سيطروا على الإقليم المذكور بأكمله.
وقبل الحديث عن النهاية المؤلمة لتاريخ الأرمن في كاراباخ لا بدّ من العودة قليلاً إلى الوراء للاطلاع على واقع هذا الإقليم في العهد السوفياتي وما قبله وما بعده.
في العام 1923 أي في العهد السوفياتي تمّ ضمّ إقليم ناغورنو كاراباخ ذي الأغلبية الأرمنية، ويقع وسط أذربيجان، إلى جمهورية أذربيجان وبحكم ذاتي، مقابل ضم إقليم ناختشوان ذي الأغلبية الآذرية إلى أذربيجان والذي تفصله عن أراضي أذربيجان الأراضي الأرمينية.
وسبق كل هذه التطورات تحرّك بريطاني لصالح الأرمن في الفترة من 1916-1919 عندما كانت القوات البريطانية إلى جانب روسيا ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وقامت بريطانيا آنذاك بنقل الآلاف من الأرمن الذين تمّ تهجيرهم من قراهم داخل الدولة العثمانية (جنوب وشمال شرق تركيا الحالية) عام 1915 إلى أرمينيا، والبعض منهم إلى إقليم كاراباخ لتكون الأغلبية للأرمن في الإقليم المذكور. ويقال إن بريطانيا قامت بنقل الآلاف من أرمن إيران أيضاً إلى هذا الإقليم.
ومع بدايات سقوط الاتحاد السوفياتي تقدّم أرمن كاراباخ بطلب إلى موسكو في شباط/فبراير 1988 للموافقة على انضمامهم إلى أرمينيا، وهو ما أدى إلى اشتباكات عنيفة بين الآذريين والأرمن بعد أن أعلن المجلس السوفياتي الأرمني في الإقليم انفصاله عن أذربيجان وانضمامه إلى أرمينيا.
وفي مطلع 1992 أعلن الأرمن استقلالهم رسمياً بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي في كانون الأول/ديسمبر 1991، مما أدى الى اشتباكات عنيفة بين الأرمن والآذريين. واستغل الأرمن الوضع الداخلي المتزعزع في أذربيجان فشنّوا هجوماً شاملاً بعد أن سيطروا على الإقليم بالكامل، فاحتلوا 6 مدن أذربيجانية محيطة بالإقليم، وكانت تشكّل نحو20% من مساحة أذربيجان. وساعد الروس آنذاك الأرمن بشكل غير مباشر، وهو ما كان كافياً لتحقيق الانتصار السريع الذي انتهى بربط كاراباخ بأرمينيا عبر ممرّ لاجين الجبلي، ودخلوا عبره مرتين الى كاراباخ في ذروة الاشتباكات بين الطرفين في نهاية صيف 1992 وبداية 1993.
ومن دون أن تساهم كل المفاوضات المباشرة وغير المباشرة عبر الاتحاد الأوروبي وروسيا وأميركا والأمم المتحدة في إنهاء الاحتلال الأرمني لأراضي أذربيجان، وإيجاد حل معقول لمشكلة إقليم كاراباخ الذي لا يتجاوز عدد سكانه 160 ألفاً، ولا مصدر عيش لهم إلا المساعدات التي يحصلون عليها من أرمينيا، وهي بدورها تعيش على المساعدات من الغرب بسبب قلة سكانها، وعددهم نحو مليونين ومعظم الشباب يعملون في روسيا (ونحو 50 ألفاً من النساء كعاملات في المنازل بتركيا) ولا يوجد في أرمينيا أي مصنع أو معمل استراتيجي.
ومع استلام الصحافي نيكول باشينيان السلطة في أرمينيا بعد انتخابات أيار/مايو 2018، دخلت أزمة كاراباخ مساراً جديداً بعد الفتور والتوتر في علاقات ياريفان مع موسكو، بعد أن سعى باشينيان للابتعاد عن روسيا والاقتراب من واشنطن وباريس ولندن. واستغلت باكو هذا الفتور ودخلت في تحالفات سرية وعلنية مع "تل أبيب" وأنقرة، وهو ما ساعدها على تحقيق التوازن أولاً وبالتالي التفوّق العسكري على أرمينيا في حرب 2020.
واستطاع الجيش الأذربيجاني خلال فترة قصيرة تحرير كل الأراضي التي كانت تحت الاحتلال الأرميني، كما استطاع محاصرة إقليم كاراباخ ومنع التواصل الجغرافي بين الأرمن وأرمينيا إلا بوساطة روسية. ومن دون أن يكون ذلك كافياً بالنسبة لرئيس الوزراء باشينيان الذي لم يستخلص الدروس من الهزيمة التي لم تؤثر على شعبيته، فتم انتخابه من جديد في انتخابات حزيران/يونيو 2021.
وشجّع هذا الانتصار باشينيان للسعي من أجل المزيد من التحالف مع واشنطن والغرب عموماً، فأجرت قواته مناورات مشتركة مع الجيش الأميركي مما دفع موسكو للاستعجال في الانتقام منه. فأعطى الرئيس بوتين الضوء الأخضر لباكو التي استنفرت قواتها بسرعة وشنّت هجومها المباغت على إقليم كاراباخ وعاصمته ستيباناغيرت (خان كنتي بالآذرية)، مما اضطر الأرمن للاستسلام والقبول بشروط باكو التي أعلنت عودة الإقليم بأكمله إلى الوطن الأم، مقابل ضمانات للأرمن في حال قرّروا البقاء في أماكنهم بعد نزع أسلحتهم بالكامل بإشراف روسي.
ومع الرهان على رد الفعل المحتمل لباشينيان الذي يقال إنه سيدخل في تحالفات عسكرية رسمية مع واشنطن لإزعاج موسكو، فقد بات واضحاً أن منطقة القوقاز مرشحة لتطورات مثيرة بعد أن أصبحت "تل أبيب" وأنقرة معاً (بعد لقاء إردوغان مع نتنياهو في نيويورك)، أو قد يدخل باشينيان على انفراد طرفاً مباشراً في المعادلات الإقليمية في القوقاز، طالما أن إيران تجاور أرمينيا وأذربيجان، فيما تجاور تركيا أرمينيا وجورجيا البلد الثالث في القوقاز المجاور لجمهوريات الحكم الذاتي ذات الأغلبية المسلمة داخل حدود روسيا وأهمها داغستان والشيشان.
ومن دون أن يتذكّر غالبية الأرمن كيف أنهم كانوا قبل 110 سنوات ضحية لحسابات إقليمية ودولية، انتهت آنذاك بقرار السلطنة العثمانية بتهجيرهم من حيث هم كانوا يعيشون داخل حدود تركيا الحالية إلى سوريا والعراق في العام ،1915 بعد أن اتهمتهم بالتآمر ضد الدولة العثمانية مع بريطانيا وفرنسا وروسيا التي كانت تحارب ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية.
في الوقت الذي اتهم فيه الأرمن الدولة العثمانية بارتكاب المجازر والإبادة الجماعية التي يقولون إن نحو 1.5 مليون من الأرمن راحوا ضحية لها آنذاك.
وفشلت كلّ المحاولات التركية وغير التركية خلال السنوات الماضية لإغلاق هذا الملف المأساوي التاريخي وإنهاء الخلاف التركي-الأرميني، بسبب تدخّل القوى الإقليمية والدولية التي رجّحت أن تقف موقف المتفرّج حيال التطورات الأخيرة التي راح الأرمن ضحية لها. ومن دون أن يستخلصوا الدروس من تجاربهم المريرة منذ أكثر من 100 عام فدفعوا الثمن غالياً.
وقد يكون هذا الثمن أغلى بكثير باستمرار حكّام ياريفان على نهجهم الحالي، وخلاصته "نحن أداة فعّالة لمن يريد أن يستفيد منا"! ومن دون أن يعوا أنّ هذه الأداة استهلكت بما فيه الكفاية، وإلا لما انتهى بهم الأمر كما انتهى عليه في كاراباخ وقريباً في أرمينيا عموماً، كما حدث في جورجيا عندما استفزّ حكّام تفليسي آنذاك روسيا فخسروا أوسيتيا الجنوبية وإقليم أبخازيا. وقد يكون مصير أرمينيا كمصير جورجيا (فيها جالية يهودية مهمة)، وحظيت هي أيضاً آنذاك باهتمام "تل أبيب"، كما حظيت أذربيجان (وفيها الآن رجال أعمال يهود مهمين جداً) باهتمامها.
ولأن الصهاينة يقولون إن يهود القوقاز، وهم من أحفاد القبائل اليهودية العشر التي سُبيت إلى بابل من "مملكة إسرائيل الأولى" في القرن الثامن قبل الميلاد، قد أقاموا كيانهم المستقل لأول مرة ضمن دولة الخزر في القرنين السابع والثامن وكانت دائماً ضد الأرمن، وربما لهذا السبب وقفت "تل أبيب" إلى جانب باكو ومعها تركيا العدو التقليدي والتاريخي للأرمن.