إسلاميو تركيا.. بين الواقع والخيال
لم يكتفِ الإسلاميون باتهام أتاتورك في موضوع ولاية الموصل، بل حملوه مسؤولية التخلي عن حدود "الميثاق الوطني" لعام 1920، التي كانت تضم شمال سوريا أيضاً.
أحيا الأتراك الأحد الفائت الذكرى المئوية لاتفاقية لوزان التي رسمت الحدود الجغرافية الحالية لتركيا، باستثناء لواء إسكندريون الذي تمّ ضمه لاحقاً إليها في إطار اتفاقية تركية فرنسية تم التوقيع عليها عام 1938.
الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في مدينة لوزان في 24 تموز/يوليو، بحضور ممثلي كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا وبلغاريا والبرتغال وبلجيكا ويوغوسلافيا وتركيا، كانت في طياتها اعترافاً دولياً بالجمهورية التركية التي أعلنت استقلالها رسمياً بعد هذه الاتفاقية بثلاثة أشهر، أي في 29 تشرين الأول/أكتوبر.
الإسلاميون الذين اتهموا مصطفى كمال أتاتورك وساعده الأيمن عصمت إينونو الذي أصبح لاحقاً رئيساً للجمهورية بتقديم المزيد من التنازلات للقوى الاستعمارية تمادوا في اتهاماتهم، فتحدَّثوا عن بنود سرية في الاتفاقية منعت الدولة التركية من استخراج ثرواتها الطبيعية لمدة 100 عام.
هذا الادّعاء صدّقه أتباع الرئيس إردوغان وأنصاره، من دون أن يخطر على بالهم أنَّ إردوغان يحكم البلاد منذ 20 عاماً، ولم يفكّر في الكشف عن هذه البنود السرية التي ليست موجودة أساساً، بل لفَّقها الإسلاميون المعادون للجمهورية الفتية ونظامها العلماني الذي أعلنه مصطفى كمال أتاتورك.
وقد اتّهم الإسلاميون، ولاحقاً القوميون، أتاتورك بالتخلّي عن ولاية الموصل في اتفاقه مع بريطانيا في 5 حزيران/يونيو 1926، أي بعد 3 سنوات من إعلان الجمهورية التي تصدّى لها الإسلاميون منذ لحظاتها الأولى، بدعم من بريطانيا التي حرضت المشايخ على التمرد عليه، وخصوصاً بعدما ألغى السلطنة العثمانية في الأول من تشرين الأول/نوفمبر 1922 والخلافة العثمانية في 3 آذار/مارس 1924، وهو ما استغلّته بريطانيا وفرنسا لتحريض الإسلاميين عليه وعلى جمهوريته الفتية بنظامها العلماني المقرب من الاتحاد السوفياتي بزعامة لينين الذي ساعده في حرب الاستقلال. وقد كانت هذه المساعدة أهم سبب في تغيير مواقف الدول الاستعمارية لاحقاً لإبعاد تركيا عن السوفيات الذين أدوا دوراً أساسياً في حركة التصنيع المهمة في تركيا.
ولم يكتفِ الإسلاميون الذين كانوا يؤثرون في الشارع الشعبي، الذي كانت نسبة الأمية فيه أكثر من 90%، عبر المشايخ والزوايا والتكايا التي منعها أتاتورك، باتهامه في موضوع ولاية الموصل التي كانت تضمّ الموصل وكركوك وأربيل والسليمانية، بل حملوه مسؤولية التخلي عن حدود "الميثاق الوطني" لعام 1920، التي كانت تضم شمال سوريا أيضاً.
يفسر ذلك حديث الرئيس إردوغان المتكرر في بدايات ما يسمى بـ"الربيع العربي" عن هذه الحدود، بعدما تغنى بأمجاد الخلافة والسلطنة العثمانية بعد مبايعة الإسلاميين العرب له، ويفسر ذلك أيضاً مساعي الرئيس الراحل تورغوت أوزال بجذوره الدينية والقومية لضمّ ولاية الموصل إلى تركيا بعد هزيمة صدام حسين واستسلامه في حرب الكويت، إذ جاءت قوات المطرقة الأميركية الفرنسية البريطانية إلى تركيا لمنع الجيش العراقي من الاقتراب من خط العرض 36 شمال العراق.
وكادت حسابات أوزال تكتسب طابعاً عملياً بعدما عبَّر الزعيمان الكرديان مسعود البرزاني وجلال الطلباني عن استعدادهما للقبول بالوصاية التركية على ولاية الموصل، وهو ما لم يتحقق لهما بعدما اعترض الرئيس الأميركي جورج بوش على هذه الخطة التي اعترض عليها رئيس الأركان نجيب تورومتاي أيضاً، باعتبار أنَّ ذلك يتناقض مع أسس الجمهورية التركية ومبادئها، فأمره أوزال بالاستقالة من دون أن يحقق أهدافه بسبب الاعتراض الأميركي، وهو ما فشل الرئيس إردوغان أيضاً في تحقيقه قبل وبعد ما يسمى بـ"الربيع العربي" الذي ما زال ملتزماً بإطاره العام، على الرغم من مصالحاته الأخيرة مع حكّام الإمارات والسعودية.
بالعودة إلى ضياع الإسلاميين بين الواقع والخيال، في موضوع استخراج ما منعته اتفاقية لوزان من الثروات الطبيعية، لم يتذكر أي منهم ما تحدث عنه إردوغان العام الماضي قبل الانتخابات الأخيرة من اكتشاف احتياطيات استراتيجية من الغاز في البحر الأسود والبترول في جبال غابار جنوب شرقي البلاد، وهو ما صدقه أتباعه وأنصاره بسهولة من دون أي نقاش، كما صدقوا ما قاله لهم وروّجه إعلامه الموالي عن الإنجازات العظيمة في مجال الصناعات الوطنية من الطائرات النفاثة والصواريخ وحاملات الطائرات والغواصات والمسيرات والسيارات الكهربائية.
وقد شكّكت المعارضة في كلّ ذلك، واتهمت إردوغان بالكذب على الشعب لدغدغة مشاعره القومية والدينية، بعدما أقنعهم بأن "تركيا دولة عظيمة تغار منها الدول الإمبريالية وتحسدها على انتصاراتها ونجاحاتها الباهرة في جميع المجالات، وأهمها الصناعات الوطنية".
ولم يخطر على بال أحد أنّ الرئيس إردوغان، وقبل جولته الخارجية الأخيرة، اعترف شخصياً بأنه سيقترح على حكام هذه الدول شراء ما ستتم خصخصته من مؤسسات القطاع العام. وقد قال الإعلام إنَّ من بين هذه المؤسسات شركة الخطوط الجوية ومؤسسة البريد وميناء إزمير والشركة الوطنية للنفط وسوق إسطنبول للأوراق المالية وغيره، بعدما باع إردوغان خلال 20 سنة من حكمه ما قيمته 70 مليار دولار من مؤسسات القطاع العام، بما في ذلك مصنع المدرعات الذي تم بيعه لقطر التي أرسل الرئيس التركي جيشه إليها لحماية آل ثاني من أي هجوم إماراتي سعودي بحريني مدعوم من مصر في حزيران/يونيو 2017.
هذا الأمر لم يتذكَّره أحد عندما التقى إردوغان الأسبوع الماضي حكّام السعودية والإمارات وقطر، وأهدى كلاً منهم سيارة كهربائية من نوع "توغ"، قال إنها صناعة وطنية تركية 100%، وهو ما يتناقض مع كلام وزير الصناعة مصطفى فارانك الذي قال إن 51% من السيارة صناعة وطنية والباقي تجميع.
وقد كذبت المعارضة كلام إردوغان ووزيره، بعدما أثبتت أن تصميم السيارة إيطالي، ومحركها ألماني، وأجزاءها الميكانيكية بريطانية، والبطارية الكهربائية صينية، في الوقت الذي قال فيه الإعلام المعارض إن الأعداد الأولى من السيارة المذكورة تم استيرادها من إيطاليا.
وقد تكون السيارات التي أهديت لحكام الخليج من بين هذه السيارات التي قيل إنّ نحو 40 منها فقط موجود في السوق التركي، على الرغم من أن إردوغان كان قد توقَّع للمصنع أن ينتج 4 آلاف منها سنوياً.
يبدو واضحاً أنَّ الجميع نسي كلام إردوغان هذا، مثلما نسي كل ما قاله قبل الانتخابات عن الإنجازات العظيمة، كما نسي أتباعه وأنصاره أن اتفاقية لوزان لا تتضمن أي بنود سرية، كما قيل لهم، وهم الذين صدقوا ذلك، مثلما صدقوا كل ما قاله لهم إردوغان منذ 20 عاماً، وما زالوا كذلك حتى اليوم، والله أدرى بالسبب!