هل رمَت القمّة طوق النجاة لـ "إسرائيل"؟
أكثر ما يقلق الأميركيين الآن هو استمرار هذه الحرب، وجرّ أطراف أخرى إقليمية إليها، وبالتالي سيجعل أميركا تتورّط في وحول هذه المنطقة بعدما كانت مقرّرة سلفاً الخروج منها.
الزلزال الذي أصاب "إسرائيل" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما زالت ارتداداته تتواصل وتضرب في أعماق الكيان الصهيوني على مستوى الوضع الاجتماعي والاقتصادي والأمني والعسكري، من خلال عدم القدرة على حسم المعركة مع المقاومة في فلسطين، وهذه الارتدادات ستضرب أيضاً ليس فقط في "إسرائيل" بل على مستوى الإقليم والعالم أجمع.
فعملية "طوفان الأقصى" كشفت حجم الزيف والكذب والخداع العالمي والـ "الديمقراطيات" الزائفة التي كانوا يتبجحون بها، والكيل بمكاييل عديدة فيما يخص "الإعلام الغربي"، و"منظمات حقوق الإنسان"، و"المجتمع المدني"، و"القانون الدولي" و"المحاكم الجنائية والدولية"، والهيئات المعنية بأوضاع العالم على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والحريات، والأهم من هذا كله حجم الكذب الذي تمارسه مجموعة الدول الغربية كـ "الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا ومعظم دول حلف الناتو وأصدقائها في العالم".
عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية هبت كل هذه الدول الآنفة الذكر، للدفاع عن أوكرانيا، وسخّرت الأموال والمعدات العسكرية والمأوى وغيره من وسائل الدعم للدفاع عنها، وأظهرت "مظلومية الشعب الأوكراني"، مع العلم أنه ليس هناك أي مجال للمقارنة بين حجم أوكرانيا كدولة ذات سيادة ومستقلة بحجم "قطاع غزة" الذي تبلغ مساحته 360 كلم2، أما عندما بدأ "الكيان الإسرائيلي" بدك غزة بالصواريخ جواً وبحراً وبراً، هرعت الدول الغربية بكل أساطيلها لمؤازرة الحكومة الصهيونية، وبالتبعية أنظمة التطبيع العربي، ولم توفّر وسيلة قتل إلّا واستعملتها، حتى بلغت بوزير التراث في حكومة بنيامين نتنياهو، عميحاي إلياهو إلى المطالبة باستعمال قنبلة نووية لمحو غزة عن خارطة الوجود، وهذا يدلل على حجم المأزق "الإسرائيلي – الغربي - العربي".
والعقوبات التي فرضتها أميركا والدول الغربية على روسيا والصين وإيران، والتي تبلغ بالآلاف، تشكّل مثالاً لما تعتمده الأنظمة الغربية الليبرالية من وسائل ضغط على المجتمعات، لفرض هيمنتها بالقوة وبالتالي السيطرة والتحكّم، وعلى سبيل المثال، ما جرى في إيران من فرض عقوبات لا مثيل لها في التاريخ (والشيء بالشيء يذكر، أكثر من 4 آلاف طفل سحقوا وأحرقوا تحت ركام الضربات الصهيونية ولم يرف لهذه الدول جفن واحد).
إن نتائج ما جرى سيظهر تباعاً على كل المستويات، ولا أغالي إذا قلت إن المنظومة الأميركية – الغربية الليبرالية، ستعيد هيكلة بنية هذه الأنظمة لما أصابها من تصدّعات واهتزازات كشفت حجم تواطؤ قوى الرأسمال المتوحّش بإدارة الولايات المتحدة الأميركية للهيمنة على العالم أجمع، وهذا سيجعل إنتاج "أيديولوجيات جديدة" كـ "قيم حضارية" جديدة تستطيع من خلالها أن تستر عوراتها أو "ترمّم" ما أصابها.
فالبناء الأيديولوجي الليبرالي الحالي وبارتباطاته الدولية والإقليمية حتى على المستوى بعض الدول العربية، بات مكشوفاً أمام شعوب هذه الدول، وفضح المنظومة العالمية التي كانت تهيمن على الرأسمال من خلال أدوات السيطرة والتحكّم، على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والمالية والثقافية، وفضحت مفكّريهم والمثقّفين الذين كانوا يروّجون أو يقنعون الشعوب بنظرياتهم "المدفوعة الثمن" كـ "وعّاظ السلاطين"، وغيرها من أفكار كانت تحاول من خلالها أن تروّج لها في العالم أجمع، وليس آخرها "تشريع الشذوذ" وقبلها العداء للسامية، ومحاربة من يتصدّى له (كمثال)، أو "الديانة الإبراهيمية" الجديدة والتي ستؤدي فيما لو اعتمدت لمحو كل آثار الديانات السماوية أو أي عقيدة مادية لا تناسب متطلّباتهم (وهذا بحث آخر).
إذاً، نحن أمام ضرب بنيان أساسي، كانت تعتمده الحكومات الغربية، وبالتالي لا بدّ من إعادة ترميمه أو إصلاحه أو استبداله بأفكار جديدة، فالحركات الشعبية والرأي العالم العالمي، والتي جابت العالم بالمظاهرات، وآخرها التظاهرة المليونية التي جرت في لندن الداعمة للقضية الفلسطينية استفاقت على "أكاذيب" كانوا هم ضحايا لها، وبالتالي ستجعل هذه الشعوب والتي انساقت "قهراً" أو عن "قناعة زائفة" لتكون ضحية من دون أن تعرف أنهم لا يمثّلون سوى "أرقام" وبالإمكان من خلال القوة والهيمنة سحق رؤوسهم ساعة يشاؤون أو محوهم "بشحطة قلم" عن خارطة الوجود. فلا القوانين الدولية باتت تحميهم، ولا شعارات الديمقراطيات، ولا حقوق الإنسان باتت تشكّل عوامل اطمئنان.
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قال: "إن إسرائيل أسقطت ما يعادل قنبلتين نوويتين على قطاع غزة"، والبعض يقول ما يعادل ثلاث قنابل نووية. عملية إبادة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة لم يشهد لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، لغاية اللحظة أكثر من 13 ألف شهيد نصفهم من الأطفال، وعملية تدمير ممنهج للمستشفيات والمباني السكنية والبنى التحتية والمساجد والكنائس وكل شيء يتحرك، ومع ذلك ما زالت الحكومة "الإسرائيلية" تفتش عن صورة نصر داخل قطاع غزة منذ إعلانها "المناورات البرية" لدخولها القطاع ولم تحصل عليها (بحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية).
لسان حال المستوطنين الآن وبعد عملية "طوفان الأقصى" الذين قدموا من أقاصي العالم الغربي للاستيطان ببلد "الحلم التوراتي"، على ما يزعمون، "أين سنرحل"؟ وأين أصبح هذا الحلم الآن؟
الجواب على لسان الكاتب الإسرائيلي في صحيفة هآرتس آري شبيت إذ كتب رسالة موجّهة للمستوطنين على أرض فلسطين: "لا طعم للعيش في هذه البلاد ولا للكتابة في هآرتس، يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس، يجب النظر بهدوء ومشاهدة "إسرائيل" وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة".
موقع «باسبورت نيوز» العبري نشر تقريراً، مفاده أنه منذ بداية الحرب في 7-10-2023 وحتى آخر شهر تشرين الأول/أكتوبر، غادر أكثر من 230 ألف صهيوني إلى الخارج، عن طريق قبرص بحراً. هذا مع التوقّعات بارتفاع وتيرة المهاجرين إلى خارج الكيان الإسرائيلي مع استمرار الحرب على غزة وعلى جنوب لبنان.
وكانت صحيفة معاريف الصهيونية، قالت في تقرير سابق إنه حتى عام 2020 غادر أكثر من 756 ألف يهودي نحو دول أخرى، لغياب الأمن والاستقرار. وأشار استطلاع للرأي إلى أن 33% من سكان الكيان يفكّرون بالهجرة نحو أوروبا وأميركا بسبب مقاومة الفلسطينيين للاحتلال وحكومة نتنياهو المتطرفة وسياساتها العنصرية، إضافة إلى 800 ألف مستوطن ممن يحملون جنسيتين أصبحوا مقيمين بصورة دائمة في دول أوروبا وأميركا وغيرها من البلدان.
وفي دراسة أخرى أجراها أحد الخبراء العسكريين قال فيها "إن ما يقارب مليوناً ومئة ألف مستوطن غادروا الكيان الإسرائيلي لغاية العام 2021، والبداية الأخطر كانت بعد حرب تموز/يوليو عام 2006، بعد هزيمة "الكيان الصهيوني".
بحسب الإعلام الغربي، تزداد قناعة الأميركي بأنّ ما يسمى (حلّ الدولتين) هو الآن نجاة لبقاء "إسرائيل" واستنقاذ مسار التطبيع معها، وللأسف مقررات القمة الأخيرة في الرياض لا تساوي الحبر الذي كتبت به، وبالتالي مدّدت الوقت أكثر لصالح الإدارة الأميركية والحكومة "الإسرائيلية" للإمعان أكثر في تدمير قطاع غزة والمراهنة على محاصرة طرح محور المقاومة (دولة واحدة).
وأكثر ما يقلق الأميركيين الآن هو استمرار هذه الحرب، وجرّ أطراف أخرى إقليمية إليها، وبالتالي سيجعل أميركا تتورّط في وحول هذه المنطقة بعدما كانت مقرّرة سلفاً الخروج منها. فهل مدت أميركا والدول العربية "طوق النجاة" للكيان الإسرائيلي لإنقاذه وإنقاذ عروشهم؟