من تشي غيفارا إلى غزّة: العدوّ واحد
تشي غيفارا في بوليفيا، وعماد مغنية في لبنان، وقاسم سليماني في إيران، وبدر الدين الحوثي في اليمن، ويحيى عياش في فلسطين أيقونات لن تموت.
الوطن أو الموت" كلمتان خلدهما التاريخ، اختتم بها القائد أرنستو تشي جيفارا خطابه الذى ألقاه في الأمم المتحدة في نيويورك 11 كانون الأول/ديسمبر 1964 ليؤكد حق الشعوب في تقرير مصيرها.
لم تُبقِ آلة القتل الصهيونية أمام أهلها ومقاوميها سوى خِيارَين لا ثالث لهما: النصر أو الشهادة، وكلاهما بالمفهوم الإيماني "انتصار".
المشاهد تتكرر منذ ما يقارب 100 عام وأكثر، والعدو واحد، فلا زالت الإمبريالية العالمية (الأميركية والصهيونية) تمثل تهديداً للبشرية، ولا زالت الهيئات الدولية ذراعاً خادماً لهذه الاحتكارات التي تتمثل بشركات عملاقة تدير الأنظمة الرأسمالية (على سبيل المثال: شركتا بلاك روك وفانغارد BlackRock and Vanguard، اللتان تقدر ثروتهما بما يقارب 16 تريليون دولار، وهي تفوق عدد كل دول العالم نسبياً، ما عدا الولايات المتحدة الأميركية).
"الفان غارد" يمتلكها الأميركي تيم بوكلي و"البلاك روك" يمتلكها لاري فينك وهو يهودي، وكلاهما من أشد وأهم المؤيدين للصهاينة ولـ"إسرائيل". هاتان المجموعتان من أكبر المجموعات التي تعمل على تعزيز "إسرائيل" لأهمية الاستثمارات التي تهيمن على مناطق في البحرالأبيض المتوسط، كشركة "شيفرون"؛ الشركة العملاقة في عالم الطاقة، وأيضاً شركات صناعة الأسلحة الأميركية، كشركتي "لوكهيد مارتن" و"رايثيون"، وكلاهما يزود الكيان الصهيوني بالأسلحة الفتاكة.
الأنكى من هذا كله، عندما تكتشف أن كاثرين راسل، زوجة ثوماس إي دونيلون (رئيس المعهد الاستثماري لمجموعة "بلاك روك"، وهو الذي يقدم الخطط ويرسم الإستراتيجيات)، هي مديرة اليونيسف، ولك أن تتخيل ماذا يُحاك في "الكيان الصهيوني" للفلسطينيين وللعرب في المنطقة.
وإذا ما تمعّنا قليلاً بحجم الاستثمارات لهذه الشركات وغيرها في الكيان الصهيوني، ندرك لماذا هرعت كل هذه الأساطيل الغربية إلى مياهنا الإقليمية، والتي بلغت حتى الآن 3 حاملات طائرات (تحتوي على 170 طائرة مقاتلة من أحدثها)، وغواصة نووية (أوهايو) تحتوي على 45 رأسا نووياً، و44 سفينة ومدمرة.
بعد البحث، تبين أن كميات الغاز والنفط الطبيعي في غزة تبلغ 1.4 تريليون قدم مكعب، وأن المنطقة ج في الضفة الغربية المحتلة تعوم على بحر من الغاز والنفط الطبيعيين تقدر قيمتهما بمئات المليارات من الدولارات. وقد تمَّ اكتشاف حقول غاز "ليفياتان" الطبيعي الذي يضم ثروات غزة الغنية، يقدر مجموعها بـ453 مليار دولار أميركي، وخاصة بعد توقيع الاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية عام 2007، ولكن لم يصل إلى أصحاب هذه الثروة الحقيقيين أيّ سنت منها. وفي الحقيقة، حرم أهل غزة من نحو 47 مليار دولار من الإيرادات بحسب الاتفاقيات مع السلطة.
وإذا ما أضفنا إليها مشروع ربط الهند بالبحر الأحمر، وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، وضرب ميناء اللاذقية وميناء بيروت، وبناء قناة بن غوريون كبديل من قناة السويس، وتحييد مصر وتركيا، يتبين لنا أن المشروع الذي يعمل عليه منذ فترة وفي الكواليس هو ربط الموانئ الهندية مروراً بالموانئ التي تطل على البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى ميناء حيفا الذي سيصبح فيما بعد المصدّر الأساس للطاقة، وممراً لسفن الشحن العملاقة على أنواعها إلى أوروبا وغيرها من العالم، وخاصة بعدما فرضت العقوبات على إيران وروسيا.
إضافة إلى تحقيق الحلم "اليهودي التوراتي بالوطن البديل"، ندرك الآن لماذا كل هذه المجازر التي تُرتكب في جنوب لبنان وفلسطين وقطاع غزة بالتحديد. ولو توسعت المعركة، فقد نشهد العديد منها على كامل جغرافيا المنطقة، من اليمن والبحر الأحمر إلى العراق وسوريا ولبنان حتى الضفة وغزة وكامل فلسطين المحتلة.
تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء هو مشروع قديم تعمل عليه الحكومة الصهيونية من العام 1967، وهو مشروع أميركي بالأساس، والهدف منه إقامة المشاريع العملاقة الآنفة الذكر، بهدف السيطرة على ثروات فلسطين المحتلة وثروات العالم العربي أجمع.
يقول المفكر اليهودي الأميركي نعوم تشومسكي: "إنّ ثمة تكتيكاً يعتمده الإسرائيليون منذ الخمسينيّات، هو الإصابة بالجنون"، إذ تحسب "إسرائيل" أنّ من المفيد لها على الدوام أن تظهر بمظهر مَنْ جُنّ جنونه، وهذه الإصابة بالجنون، باتت أسلوباً متّبعاً (نشهد أقصى تجلّياته اليوم في غزة) لإنزال أشدّ الألم بالمدنيين، على أساس أنّ المقاومة عبارة عن جناحين: جناح عسكري مقاتل، وجناح اجتماعيّ (أي المجتمع المدني).
حقيقةً، هو انتقام "مجنون" ومقصود لإعادة الاعتبار إلى الهزيمة التي تلقاها العدو، يجعله بمفاعيله الكارثية أقوى في الوعي الجمعي من مفاعيل عملية "طوفان الأقصى"، لكنه سيرتد عليه بالكثير من السلبيات. وها نحن اليوم نشهد ما يجري في العالم أجمع من شجب وإدانة وتظاهرات صاخبة ضد "إسرائيل".
هل هذه المشاريع ستبصر النور؟ سؤال لا بد من الإجابة عنه بعد عملية "طوفان الأقصى" التي قلبت الموازين على صعيد العمليات العسكرية ضد "إسرائيل" منذ الاحتلال البريطاني وبعده الاحتلال الصهيوني؛ أي منذ 100 عام وحتى هذه الساعة، فهي العملية الأولى التي تتفوق فيه المقاومة الفلسطينية على أعدائها بهذا الشكل، على الرغم من حجم التفوق العسكري الصهيوني الواضح.
إذا ما وضعنا هذه العملية في ميزان العمليات العسكرية ضد الاحتلال، فإنها تساوي مجمل العمليات العسكرية منذ ما قبل الاحتلال الصهيوني، حتى عملية وحدة الساحات التي حصلت في آب/أغسطس 2022، والتي ستكون نقطة تحول مفصلية في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني.
هذه العملية لن تعيد الكيان الصهيوني كما كان قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ فحجم الضربة التي تلقاها، لن تعيد الرفاهية والحياة للمستوطنين اليهود كما كانت من قبل، ولن تعود منطقة غلاف غزة أو منطقة شمال فلسطين صالحة للعيش كما كانت، وقد لا يعودون إليها، ولن يعود الكيان الصهيوني نقطة جذب ليهود العالم، بل سيتحول إلى الهجرة المعاكسة للمستوطنين اليهود إلى بلادهم الأصلية التي جاؤوا منها أو إلى أماكن أخرى يلجؤون إليها.
هذا الأمر سيزيد أزمة الكيان الصهيوني من الناحية الديموغرافية، إذ سيجعل الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة أكثر بكثير من المستوطنين اليهود، ولن تكون "إسرائيل" بالقوة العسكرية نفسها التي كانت عليها من قبل، فعملية "طوفان الأقصى" فضحت قوة الكيان الصهيوني على حقيقته. وقد تبين أنه فعلاً أوهن من بيت العنكبوت، وأن هذا الكيان الذي أنشئ ليكون أداة من أدوات الرعب الأميركية احتاج أكثر من 3 حاملات طائرات وغواصة نووية لحمايته.
وهنا السؤال الذي يفرض نفسه: ما جدوى وجود هذا "الكيان"، الذي تحول عبئاً على الإدارة الأميركية، خاصة أن الولايات المتحدة الأميركية اضطرت مجبرة إلى توجيه قواتها وحلفائها الذين كانوا يساندون جبهة أوكرانيا ضد روسيا، والتوجه لحماية هذا "الاستثمار بحاملة الطائرات الصهيونية"؟
في الخلاصة، "إسرائيل" لن تعود نقطة جذب للمستثمرين الأجانب والعرب كما كانت تروج، ولن تعود واحة أمان، ولن تعود آمنة للسائحين، ولن تعود قطعاً "البعبع" الذي يخوف جيرانه العرب، ولن تستطيع حماية الدول التي طبّعت معها، خاصة بعد أن فقد القدرة على حماية نفسها، فالزمن تغير وأثبت أن الإمبريالية الأميركية والتسلط الغربي والأحادية القطبية على طريق الاضمحلال، ولن تعود هذه القوى إلى ما كانت عليه من قبل.
تشي غيفارا في بوليفيا، وعماد مغنية في لبنان، وقاسم سليماني في إيران، وبدر الدين الحوثي في اليمن، ويحيى عياش في فلسطين أيقونات لن تموت. سيَحيون مع الثوار أينما كانوا في العالم ضد دول الاستعمار الغربي ومن يحاول أن يتشبه به في العالم العربي.