مفاوضات عبثية وغير شرعية بدل التدخل الدولي لوقف العدوان
الإدارة الأميركية ورغم ادعائها بالسعي إلى وقف إطلاق النار، فإنها عطلت أي قرار يقضي بوضع حد للعدوان، يصدر عن مجلس الأمن، من جهة، واستمرت بإرسال الأسلحة التدميرية للعدو من جهة أخرى.
إن مجرد طرح موضوع المفاوضات في ظل العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة، وما يرتكبه الاحتلال من جرائم دولية، هو طرح خاطئ عبثي وغير قانوني، إذ إن المفاوضات تجري عادة بين أطراف متعادلة، وليس في حالة ارتكاب الجرائم الدولية، فهذه تستدعي تدخلاً دولياً لردع العدوان، وإقامة محاكم دولية لمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم ضد الطرف الآخر، وهو هنا الشعب الفلسطيني، الذي يجب إنصافه والتعويض عليه. وبالتالي، فإن ما سمّي مفاوضات يندرج ضمن خانة التصرفات العبثية وغير الشرعية وذلك لاعتبارات عديدة.
المفاوضات غير شرعية
غير شرعية لأنها تحصل في ظل استعمال القوة وارتكاب أفظع الجرائم الدولية ضد الشعب الفلسطيني، بما فيها الحصار والتجويع والتهجير القسري المستمر، والحرمان من الاستشفاء وتدمير البنى التحتية، وعلى رأس كل ذلك، جريمة الإبادة الجماعية، والتي يقصد العدو من ورائها تأبيد الاحتلال من خلال التخلص من الشعب الفلسطيني وحقوقه، والحلول محله في ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية المحتلة، على أمل أن يستتب الأمر بشكل نهائي للكيان المحتل بنظامه العنصري الاستيطاني الإحلالي.
الجانب الآخر لعدم الشرعية يتمثل بأن راعي المفاوضات هو طرف غير محايد، يتمثل بالولايات المتحدة الأميركية، تلك الدولة التي ترمي بكل ثقلها في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ومن يناصره، مزودة العدو الإسرائيلي بأكثر الأسلحة قدرة على التدمير، وزاجّة بفرقها الاستخبارية لتزويده بالمعلومات حول وجود القادة السياسيين والعسكريين لاستهدافهم، خاصة في لبنان والدول المجاورة، وصولاً إلى إيران. لم يخف الرئيس الأميركي أصلاً انتماءه وهويته الصهيونية، ولا دعم بلاده غير المتناهي والذي لا يتزحزح للكيان الصهيوني، وقد صرح بذلك أكثر من مرة، خاصة بعد السابع من أكتوبر 2023، إذ أرسل بوارجه لتهدد أي جهة تحاول أن تدافع عن نفسها أو عن الشعب الفلسطيني بالويل والثبور وعظائم الأمور.
أما بالنسبة إلى الأطراف الباقية، أي مصر وقطر، فيمكن القول إنهما محايدتان، وإن كان لا يعلم بالقلوب إلا الله، فالأولى تقيم معاهدة تطبيع مع الكيان الصهيوني وهي تداري وضعها، وأما قطر فهي من جهة تدعم الشعب الفلسطيني ومن جهة ثانية تستضيف على أرضها أكبر القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة، ولا يمكنها أن تغضب الأميركي.
ورغم كل ذلك، فقد أرادت حركة المقاومة الفلسطينية، ممثلة بحماس، أن تضع حداً للجرائم التي يتعرض لها شعبها، فقبلت بالمفاوضات، على أمل أن يتم التوصل إلى وقف إطلاق النار، يكون من شأنه أن يضع حداً لجرائم العدو، من دون أن يعني ذلك الاستسلام بل التفاوض بشرف يليق بتضحياتها وتضحيات الشعب الفلسطيني، ويمكنه من تقرير مصيره على أرضه. إن التفاوض لا يحصل عادة في ظل استعمال القوة أو أي وسيلة إكراه، وإلا كان اتفاق إذعان حسب التسمية القانونية، حيث ينتزع الطرف القوي تحت التهديد مواقف من الطرف الآخر لم يكن يقبل بها في الحالات العادية، غير أن حماس كانت لحسن الحظ منتبهة لمسألة الابتزاز تلك، واتخذت المواقف المناسبة.
المفاوضات عبثية بامتياز
المفاوضات التي جرت بعد مرحلة تبادل الأسرى الأولى بين العدو الإسرائيلي وحماس، يمكن توصيفها بأنها عبثية بامتياز. لقد دخلها رئيس الوزراء الصهيوني المتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية بأنه مجرم حرب، ليس لوضع حد لسفك الدماء وقتل الأطفال، بل لكسب الوقت، والمراوغة، ولإظهار أنه يريد حلاً، أولاً لتضليل أهالي المختطفين الصهاينة، الذين يتظاهرون يومياً بغية التوصل إلى حل يطلق فيه سراح أقاربهم؛ وثانياً، كي يظهر تجاه الخارج، أنه ليس ممتنعاً عن البحث لإيجاد حل. لكن الحل بالنسبة إليه هو استسلام حماس، واستسلام الشعب الفلسطيني معها، وتسليم الجميع بوجود الكيان الصهيوني، وإضفاء الشرعية على ذلك الوجود، وفتح الباب واسعاً أمام التطبيع مع من تبقى من أنظمة عربية غير مطبّعة، وتعيش "إسرائيل" في أمان وسلام، ويذهب الشعب الفلسطيني وحقوقه في مهب المريح.
الأنظمة العربية المقصودة، كانت في هذه الأثناء صامتة صمت القبور، بانتظار ما سيسفر عنه الوضع، هل سينتهي بمفاوضات استسلام، تمكنها من إكمال طريق التطبيع، وتكوين حلف معاد لإيران، تلك الدولة التي ذنبها الوحيد أنها ناصرت الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني ضد ذلك المحتل الغاصب ومن يسانده، لأن مسؤوليها يعلمون وبحكم الخبرة الطويلة، أن ذلك الكيان غير الشرعي، وجد في المنطقة لإبقائها ضعيفة، ولاستغلال مواردها والهيمنة على قرارها.
الإدارة الأميركية من جهتها، رغم ادعائها بالسعي إلى وقف إطلاق النار، فإنها عطلت أي قرار يقضي بوضع حد للعدوان، يصدر عن مجلس الأمن، المسؤول عن السلم والأمن الدوليين، من جهة، واستمرت بإرسال الأسلحة التدميرية للعدو، كي يتمكن من الاستمرار في عدوانه، من جهة أخرى.
لكن اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، والتظاهرات الطلابية والجامعية والشعبية التي ملأت الشوارع والساحات الأميركية، كما غيرها في بقية العالم من قبل الأحرار استنكاراً للإجرام الإسرائيلي، والحاجة إلى أصوات الجاليات العربية والإسلامية، كل ذلك جعل الرئيس الأميركي، يتلو أمام العالم نص اتفاق نسبه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأعلن موافقته عليه، وأنه ينتظر موافقة قادة حماس. أعقب ذلك تضمين محتوى بيان بايدن في قرار ملزم صدر عن مجلس الأمن تحت الرقم 2735، تاريخ 10/6/2024. ويقضي القرار بوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات إلى القطاع، وعودة المهجرين قسراً، وإعادة البناء، وتبادل الأسرى، رغم ما يكتنف ذلك القرار من غموض يمكن أن يستغله العدو لصالحه، بالإضافة إلى أنه يساوي بين المعتدي والمعتدى عليه، أو بين المحتل والواقع تحت الاحتلال.
لم يتأخر قادة حماس عن درس مسودة الاتفاق والموافقة عليه، وإعلان التزامهم بقرار مجلس الأمن رقم 2735. لكن تبيّن سريعاً أن ما أطلقه بايدن كان تمثيلية سمجة، أعقبها استقبال لمجرم الحرب نتنياهو في الكونغرس الأميركي، إذ ما انفك ممثلو أقوى دولة في العالم يقفون ويصفقون للضيف الصهيوني، متجاهلين جرائمه، حتى خيل لمن يرى المشهد أن من يحكم الولايات المتحدة هو رئيس الكيان الصهيوني، أو أنه مرشدهم الروحي.
ثم ذهب بعد ذلك واستقبله بايدن بالأحضان، وكذلك المرشح الجمهوري، وعاد إلى الشرق الأوسط بزوادة جديدة، استهلها بجريمتين كبريين الأولى تمثلت باستهداف كبير القادة العسكريين في المقاومة الإسلامية في بيروت فؤاد شكر، تلاها استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الدكتور إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية طهران، واستمر العدو يومياً بشكل استفزازي يستهدف قادة من الحزب أو مدنيين في لبنان، بينما استشرس "جيشه" في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وملاحقة المقاتلين في الضفة الغربية، وتجريف البنى التحتية في أحيائها.
لم يقنط في هذه الأثناء وزير الخارجية الأميركي، والذي بدوره أعلن أنه اليهودي المناصر لـ"إسرائيل" بامتياز، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأحداث، من تكرار زياراته إلى المنطقة، وإطلاق التصاريح المتفائلة بقرب الفرج، وقد تبيّن أنها واهية، كونها تنتظر ما سيقرره مجرمو الكيان المغتصب. وكما كان منتظراً، انتهت المفاوضات غير الشرعية والعبثية بالفشل، حين أعلنت قيادة المقاومة الفلسطينية، في 19/8/2023، أنها لا تقبل بانتزاع انتصار للعدو على حساب وجودها، وعلى حساب الحقوق الفلسطينية، بعد أن أدخل نتنياهو تعديلات على نص الاتفاق، أي مبادرة بايدن، التي بني على أساسها القرار 2735، لم يتصد المفاوض الأميركي لسلبية نتنياهو، وإصراره على تنفيذ مخططه ضد الشعب الفلسطيني في غزة، ولا استطاع بقية الوكلاء أي قطر ومصر تحديداً من فرض موقف لصالح الفلسطينيين، لكن حماس وجدت أنه تمّ إدخال تغير جوهري على أصل النص الأساسي الذي قبلته، والذي تضمنه قرار مجلس الأمن رقم 2735.
خلاصة، وكما ألمحنا سابقاً، كان من المفترض، في وضع عدوان مماثل يهدد الأمن والسلام الدوليين، كما وصف في قرار مجلس الأمن 2735، ويتميز بارتكاب جرائم دولية، الأبشع على مر التاريخ، موثقة مباشرة بكل وسائل الإعلام ومن جانب مختصين وجهات دولية، والمحكمة الجنائية الدولية، كان المفترض أن يبادر المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، إلى اتخاذ إجراءات فعلية لوضع حد للعدوان وللجرائم المرافقة ضد الشعب الفلسطيني، خصوصاً، وذلك عن طريق إرسال قوة ردع دولية تتدخل عسكرياً لتجبر "إسرائيل"، العضو في الأمم المتحدة على الكف عن عدوانها، وأن يتم إنشاء محكمة جنائية خاصة لملاحقة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية ضد الشعب الفلسطيني، بانتظار ما ستقوم به المحكمة الجنائية الدولية، كما كان من المفترض أن تسارع مختلف الحكومات أو الجهات المتضررة إلى رفع دعاوى ضد مجرمي الحرب الصهاينة أمام محاكم بلادهم الوطنية، مع مراعاة أصول الادعاء والاختصاص والصلاحية.