مستقبل الهيمنة الأميركية على النظام الدوليّ في ضوء معركة "طوفان الأقصى"
لأول مرةٍ في التاريخ المعاصر لأميركا تجد نفسها مضطرةً للاستجابة إلى تصعيد خصومها، بعد تربعها على عرش الهيمنة في النظام الدولي لعقودٍ ثلاثةٍ خلت.
تشهد القوة العالمية، راهناً، تحولاتٍ عميقةً في التكوين (الطبيعة) وفي التوزيع العالمي للهيمنة، بالتزامن مع تآكل الهيمنة الأحادية على النظام الدوليّ، وعدم قدرتها على وضع جدول الأعمال الدوليّ منفردة كما كان في العقدين الماضيين. طبعاً، جزءٌ من هذا التحوّل مردّه الضعف البنيويّ للقوة المهيمنة، وجزءٌ منه مرتبطٌ بزيادة منسوب القوة للقوى العالمية، الصاعدة والناشئة، وجزءٌ آخرٌ مرتبطٌ بتبعات الأزمة المالية العالمية (2008).
وإذا كان تحوّل القوة أمراً واقعاً ومستمراً ولكنّه بطيءٌ، فإن اتجاهات توزيع الهيمنة عالمياً، وقواها الأساسية (دول قومية، منظمات حكومية غير حكومية، شركات متعددة الجنسيات) والنتيجة التي قد تفضي إليها، غير محسومة بعد، فالصعود التاريخي للغرب منذ القرن السادس عشر، بات في مرحلة التراجع، السياسي والاقتصادي والقيمي، بعكس الصعود التاريخيّ للقوى التعديلية الراهنة، التي تحاول الخروج من تبعات قرون الإذلال والتحكم الغربي إبان الحقبات الاستعمارية والتي هيمنت عليها القوى الأوروبية سابقاً، وتحاول بناء نظامٍ دوليٍّ أكثر توازناً واستقراراً.
طبعاً، سيكون من السذاجة تصور أنّ الغرب بنزعته الإمبريالية وفي مقدمه الولايات المتحدة سيقبل بالتنازل عن موقعه في النظام الدولي بسهولةٍ لمجرد صعود الصين وروسيا، أو تمرد بعض دول الجنوب العالمي وطموحات بعض القوى الوسطى الناشئة، على العكس من ذلك، تتجه الولايات المتحدة نحو محاولة استعادة موقع الهيمنة الدوليّ، باتباع أساليب القوة الصلبة والناعمة والاحتواء في آنٍّ واحدٍ ضدّ خصومها، وتجديد تعاهداتها مع حلفائها، وبناء أنماط جديدة من التفاعل مع أصدقائها وشركائها الدوليين، كنمط الأطراف المصغرة الذي تتبعه في شرق وجنوب شرق القارة الآسيوية وراهناً الشرق الأوسط، وهو ما سيرتب على مرحلة تحوّل القوة العالمي تبعاتٍ سلبيةٍ من عدم الاستقرار الاستراتيجي العالميّ، وزيادة منسوب التهديدات والاحتكاكات وربما الصدامات الدولية.
أمّا النتيجة التي قد تفضي إليها مرحلة تحوّل القوة العالمي الراهنة فهيّ أيضاً غير محسومةٍ بعد، ومرتبطة بمتغيراتٍ دولية عديدة، في مقدمها: نتيجة الحرب الأوكرانية (2022) وهنا تحديداً ليس المقصود النتيجة الميدانية المباشرة بقدر ما هو مستقبل العلاقة الروسية- الأوربية في ضوء نتيجة تلك الحرب، إضافةً إلى نتيجة الاحتواء الأميركي / الغربي للصين وتفاعلاته، ومدى قدرة دول الجنوب العالمي على خلق كتلةٍ من عدم الانحياز الجديد بدأت إرهاصاتها بالتشكّل راهناً، وسيناريوهات تلك النتيجة تتأرجح بين: ظهور عالمٍ متعدد الأقطاب (دولة قطب، إقليم قطب، منظمة دولية قطب)، أو تجديد الهيمنة الغربية على النظام الدوليّ وقلنا الغربية عمداً ولم نقل الأميركية، لأنّ هذا الخيار يتحدد بقدرة الولايات المتحدة على تجميع الغرب من خلفها ثانيةً بعد الحقبة الترامبية خصوصاً (أميركا أولاً)، أمّا الخيار الآخر لتلك النتيجة أن لا تكون هنالك أيّ دولةٍ قوة مهيمنة في النظام الدولي، وقد نرى تلك الهيمنة (ربما) تمارس من فواعل أخرى كالشركات الرقمية متعددة الجنسية (ظهور فواعل رقمية).
وفي خضم هذه المتغيرات الدولية، أتت حرب غزة (طوفان الأقصى) لتفرض نفسها متغيراً لا يقلّ أهمية عن الحرب الأوكرانية لجهة تأثيرها في شكل الهيمنة والقوة العالميتين وتوزيعهما، والأمر ليس مرتبطاً بتفاصيل القضية الفلسطينية داخلياً بقدر ارتباطه بالساحات التي اشتعلت لأجلها، فمع توسع نطاق الحرب لتشمل لبنان واليمن والعراق، باتت هذه الحرب متغيراً لا يمكن تجاهله في تحديد اتجاهات الهيمنة مستقبلاً، فمع تشكّل التحالف الأنكلو سكسوني في اليمن، والضربات الأميركية في العراق، واتجاه أوروبا نحو إنشاء تحالفٍ بحريّ في البحر الأحمر، باتت حرب الطوفان حاسمةً لاتجاهات الهيمنة، مبنيةً على متغيراتٍ أبرزها: صورة الردع الأميركي، وحجمه، وفعاليته، إضافةً إلى تقدير حلفاء واشنطن وخصومها في آن لهذا الردع وفعاليته.
تعتقد الولايات المتحدة أنّ صورة الردع الأميركيّ في اليمن والعراق على خلفية "طوفان الأقصى"، وتحديداً الهيمنة البحرية كافيةٌ في الوقت الراهن لاستعادة موقع الهيمنة في النظام الدوليّ الذي تآكل منذ العام 2008، مستغلةً انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، وتحوّلها إلى حرب استنزاف.
وعدم قدرة الصين على التأثير العسكري راهناً في الشرق الأوسط، ورغم ذلك، ظهرت ثلاثة مؤشراتٍ معاكسةٍ لا يمكن تجاهلها، المؤشر الأول أنّ الولايات المتحدة لم تستطع حشد حلفائها التقليديين في غرب آسيا في تحالف "حارس الازدهار"، والمؤشر الثاني إنشاء الاتحاد الأوروبيّ قوة دولية في البحر الأحمر (خطة أسبيدس)، والثالث هو الردع الإيرانيّ خارج الحدود كما حدث في باكستان والعراق، هذه المؤشرات الثلاثة تدلّ على عمق الأزمة الأميركية لناحية تقدير حلفاء الولايات المتحدة لها كمهيمنٍ دوليّ، واتجاههم نحو خياراتٍ أخرى، فخطة "أسبيدس" هيّ مؤشرٌ على تنامي تيار إنشاء القوة الأوروبية في السياسات الأوروبية بعيداً من سياسات "الناتو" وهيمنة واشنطن على القرار الأمنيّ والعسكريّ لأوروبا، وردع إيران الإقليميّ بات أقوى مع "طوفان الأقصى" وأظهر مزيداً من تآكل الردع الأميركي إقليمياً.
أكثر ما تخشاه الولايات المتحدة أن تكون معركة "طوفان الأقصى" الرصاصة الأخيرة القاتلة لصورة الهيمنة الأميركية على النظام الدوليّ، بعد تعرضها لهزاتٍ عنيفةٍ مع ضعف الاستجابة العسكرية الأميركية في أوكرانيا (2022)، وقبله صورة الانسحاب الأميركي من أفغانستان (2021)، وتفلّت حلفاء الولايات المتحدة من قيود واشنطن في علاقتهم المتنامية مع روسيا والصين.
ويبقى العامل الأكثر حسماً على صورة الردع والهيمنة الأميركية إقليمياً هو استجابة الولايات المتحدة عسكرياً لما سيحدث في لبنان إذا اندلعت مواجهات شاملة بين حزب الله والكيان الإسرائيليّ ونتائج هذه الاستجابة على مجرى المعركة.
ختاماً، لم تستطع الولايات المتحدة بعد استعادة صورة الهيمنة والردع إقليمياً في حربها على اليمن مع بريطانيا، وجلّ ما قامت به الولايات المتحدة هو "موازنة التصعيد" وإظهار "سرعة الاستجابة" مع جبهات المقاومة، ولأول مرةٍ في التاريخ المعاصر لأميركا تجد نفسها مضطرةً للاستجابة إلى تصعيد خصومها، بعد تربعها على عرش الهيمنة في النظام الدولي لعقودٍ ثلاثةٍ خلت، وهذا الأمر يفتح سيناريوهات تبدو معقدةً للمرحلة القادمة عالمياً وإقليمياً في غرب آسيا، تتراوح معطياتها بين اقتناع الولايات المتحدة بموقعها الراهن في النظام الدوليّ (قطبٌ دوليٌّ) أو استمرار سعيها لإعادة صورة الردع والهيمنة الأميركية (الأحادية القطبية)، ومعها تبدو الولايات المتحدة راغبة بإخراج نتائج "طوفان الأقصى" من معادلة الهيمنة على النظام الدوليّ، وإبقاء حرب أوكرانيا واحتواء الصين كمحددين فقط لمستقبل هذه الهيمنة، لذلك تستعجل الولايات المتحدة تسوية إقليمية سياسية قبل دخول الحرب الأوكرانية ربما مراحل جديدة.