محور المقاومة واستراتيجية التدخل في حرب غزة
ما دام ليس هناك تهديد وجودي للمقاومة التي لا تزال حاضرة، فإن الحرب الشاملة من خلال فتح المحور لها لم يحن وقتها، بل الأهم الآن هو إشغال العدو واستنزافه.
شهر ونيف مرّ على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. عدوان حصد أرواح آلاف الأبرياء، جلهم من الأطفال والنساء، ولم يخلف إلا الدمار. أيام كثيرة مضت، ولم يستطع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت تحقيق الأهداف الرئيسية للحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي عقب عملية "طوفان الأقصى" البطولية، والتي تتلخص، بحسب ما أعلنه قادة هذه الحرب، بالقضاء على حماس وتدمير قدراتها العسكرية.
يرى البعض اليوم أن هدف هذه الحرب هو إنهاء القضية الفلسطينية من خلال إنهاء المقاومة، وبالتالي توجيه ضربة قاسية إلى محور المقاومة من خلال كسر حركة حماس وتدمير قدرات المقاومة في غزة، وخصوصاً أن واشنطن و"تل أبيب" ترى هذا المحور لاعباً فاعلاً خطيراً، ولا يُعد تهديداً وشريكاً في الصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط فحسب، بل يعدّ أيضاً شريكاً في صنع القرار في المنطقة التي يعمل في مجالها الجيوسياسي كقوة صاعدة.
وفق ذلك، هناك من يطرح تساؤلات عدة حول عمل محور المقاومة ودوره في هذه الحرب. ومن يطرح هذه التساؤلات هما فريقان: فريق يريد معرفة ما يقوم به المحور والإستراتيجية التي يعمل وفقها، وفريق آخر يريد اللعب على وتر الفتنة والادعاء بأن ما قام به المحور غير كافٍ، من دون أن يفتح عينيه على الحقيقة ليرى كيف تعمل الجبهات المختلفة إلى جانب المقاومة في فلسطين.
أولاً: أهمية "طوفان الأقصى" لمحور المقاومة
لا شك في أن من نتائج عملية "طوفان الأقصى" أنها كشفت عن بعض قدرات محور المقاومة، والأهم من ذلك أنها أظهرت إرادته وقراره في المساندة والمواجهة وتوسيع الجبهات في حال كان ذلك ضرورياً للمعركة التي تخاض، وهذا ما سنوضحه لاحقاً.
الأمر الثاني الذي أظهرته هذه العملية العظيمة أيضاً هو مراكمة محور المقاومة القدرات، والاستعداد بشكل مستمر للمواجهة مع العدو الصهيوني، ومحاولة كسب النقاط في مقابل الانحدار الإسرائيلي، فلحظة التحرير التي انطلقت في "طوفان الأقصى" سوف تليها جولات أخرى حتى الوصول إلى التحرير النهائي الذي يطمح إليه قادة المقاومة، وهذه المعركة لن تكون الحاسمة. هذا ما تقوله المقاومة في فلسطين، التي ترى أن المشوار بدأ وسوف تليه جولات أخرى.
الأمر الثالث الذي يمكن الإشارة إليه هو محاولة الإدارة الأميركية احتواء هذا المحور، لما يشكله من خطر على مشروعها في المنطقة المتمثل بالكيان الإسرائيلي، ما دفع واشنطن، ومعها فرنسا وبريطانيا، إلى إرسال حاملات طائرات وسفن حربية إلى الشرق الأوسط من أجل ردع هذه المحور عن توسيع رقعة الحرب ضد "إسرائيل" التي كانت في حالة الانهيار لحظة الطوفان.
لقد حققت المقاومة الفلسطينية ما لم يتوقعه الاحتلال خلال عملية الطوفان التي جعلت الكيان الإسرائيلي أمام صدمة، وكشفت عجزه الاستخباراتي والعسكري والسياسي، وبالتالي كانت المقاومة في غزة جاهزة لكل الخيارات ما بعد الطوفان؛ لأن قادة المقاومة كانوا يقرؤون الأمور بواقعية وموضوعية. وبطبيعة الحال، فإن حجم عملية الطوفان كان سيجعل الإسرائيلي يذهب إلى خيار التوغل البري الشامل، كما يحصل اليوم.
في مقابل ذلك، فإن المقاومة الفلسطينية كانت تعد العدة، وكانت جاهزة لهذه المعركة بطريقة مختلفة عن المواجهة التقليدية، وبالتالي تتم هذه المواجهة من خلال استنزاف قوات العدو داخل غزة، وهذا ما يأخذنا إلى أمر ضروري: المقاومة في غزة جاهزة وحاضرة لاستنزاف الإسرائيلي مع ما يقوم به المحور من إشغال الجبهات دون التحول إلى حرب شاملة؛ لأن محور المقاومة يعمل بشكل غير تقليدي ويخوض حرباً ليست متماثلة، على عكس الجيوش الكلاسيكية.
وكما هو واضح، لا تزال المقاومة في غزة مستمرة في تصديها للجيش الإسرائيلي المتوغل في قطاع غزة. وبعدما حول الجيش الإسرائيلي شمال القطاع إلى أرض محروقة للتوغل البري لتكون الطرقات إلى المدينة سهلة أمام دباباته وآلياته، فإن ما وجده بعد مرور هذه الأيام هو أن المقاومة لا تزال تقاتل بشراسة وسهولة، وتوجه إلى قواته المتوغلة الضربات، وتوقع فيها خسائر فادحة، ما جعل الجيش الإسرائيلي أمام خيار الغرق في رمال غزة في مقابل تحقيق إنجاز يريده نتنياهو.
ثانياً: لحظة توسيع محور المقاومة رقعة الحرب
المؤشرات الآنفة الذكر تأخذنا إلى القول إن هناك تحولاً استراتيجياً يحصل في فلسطين، لأن ما قبل الطوفان ليس كما بعده، وهذا ما يدفع بالأمل نحو كسر هيبة الجيش الإسرائيلي وإعادة الزخم إلى القضية الفلسطينية من خلال صمود أهالي غزة ومقاومتهم، لكن ذلك يطرح إشكالية توسيع محور المقاومة رقعة هذه الحرب في وجه الكيان الإسرائيلي على أن تكون اللحظة المؤاتية لذلك قد حانت.
من نافلة القول إن ما يجري من متغيرات دراماتيكية في المنطقة بشكل عام، وفي فلسطين خلال الأيام الأخيرة بشكل خاص، يوحي بأنَّ الحلقة الأخيرة اقتربت، وصولاً إلى ساعة الحسم وفرض المعادلات العسكرية والسياسية الجديدة، لا كما يريدها العدو، بل كما تريدها المقاومة ومحورها.
قضية فلسطين بالنسبة إلى محور المقاومة هي القضية المركزية، ووضع الشرق الأوسط برمته يتمحور حول هذه القضية. وقد أعاد محور المقاومة تشكيل التوازن الاستراتيجي فيه وفقاً لهذه القضية. لذا، فإنه يقوم استراتيجياً على مشاركة الأهداف والدعم المتبادل والتدخل بحسب ظروف الجبهات وظروف المقاومة في غزة.
لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، يعمل تحالف المقاومة كمحور متكامل متضامن، ويتدخل بحسب حاجة الجبهات وفتحها في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وهو حين يرى أن هناك حاجة استراتيجية لفتح الجبهات الأخرى كاملةً؛ بمعنى الحرب الشاملة، سيقوم بفتحها، علماً أن ركائز المحور في لبنان وسوريا والعراق واليمن باتت مشاركةً في القتال، كلٌّ في ساحته القريبة أو البعيدة نسبياً عن فلسطين المحتلة.
ومنذ بداية الحرب على غزة، بدأ حزب الله بإشغال ما يقارب ثلث الجيش الإسرائيلي عن جبهة غزة، وهو يقوم باستهدافات وعمليات يومية للعدو. كذلك، فإن حركة أنصار الله في اليمن تستهدف الكيان بصواريخ استراتيجية ومسيرات بشكل دائم. وقد أعلن السيد عبد الملك الحوثي قرار ضرب أي هدف إسرائيلي في البحر الأحمر.
أضف إلى ذلك أن المقاومة الإسلامية في العراق تقوم باستهداف القواعد الأميركية في سوريا والعراق بصورة دورية، ما أدى إلى إصابة أكثر من 45 جندياً أميركياً حتى الآن، فضلاً عن إطلاق الصواريخ من جبهة الجولان، ما يظهر أن كل المحور اليوم ينخرط في هذه الحرب إلى جانب المقاومة من دون أن يصل إلى عتبة الحرب الشاملة التي لم يحن وقتها، وخصوصاً أن الغرب كله يلتف حول العدو في هذه الحرب.
وبالتالي، فإن تحديد اللحظة يتطلب الكثير من الدقة والواقعية والعقلانية والتقدير ومعرفة العدو. وفي المقابل القدرة على خوض حرب كهذه في لحظة تريدها واشنطن للإنقاض على قوى المقاومة، إلا في حال قام العدو نفسه بتوسيع رقعة الحرب في جبهة أخرى أو الوصول إلى القضاء على المقاومة في فلسطين، وهذه اللحظة بعيدة إلى الآن.
يمكننا القول إن محور المقاومة يعمل وفق إستراتيجية "الاقتراب الموزّع" التي تحكم عمله في الحرب، والتي تعني عدم الدخول في مواجهة جماعية مباشرة بمعنى حرب شاملة، إلا في لحظة استراتيجية محددة، كما حصل خلال الحرب على سوريا، حيث كانت الحاجة الملحة تدعو إلى تدخل كل المحور في هذه المواجهة الكبرى.
وعلى العكس من ذلك، لم يتدخل في مواجهة القوات الأميركية بعد اغتيال الحاج قاسم سليماني، والرد على ذلك عبر استهداف قاعدة عين الأسد أو من خلال الدخول المباشر في مواجهة الحرب السعودية على اليمن، لكنه في المقابل يقوم بمساندة المقاومة في غزة ويشاغل العدو عن المقاومة فيها. ومن خلال ذلك، يعطي لكل فصيل أو قوة أو جهة فيه قرار المواجهة وطلب التدخل حين يرى أنه بحاجة إلى ذلك، وهذا ما يجعل محور المقاومة تكتلاً قوياً في القرار والتأثير في المشهد الإقليمي الدولي.
إن نجاح هذا المحور يقوم على ثبات مرتكزاته المحلية في الدول الممتد إليها، حيث بإمكان فصائله في سوريا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين من المواجهة المنفردة، ثم تأتي إيران ومعها سوريا كمنظومة إقليمية جيوبولوتيكية ضابطة لحركة هذه القوى ومقدمة للدعم اللامتناهي عسكرياً واقتصادياً وسياسياً مع الاستعداد للتدخل في أي لحظة في البقع الجغرافية العسكرية التي تواجهها فيها منفردةً أو مجتمعةً.
وبالتالي، فإن هذه المعادلة التي تحكم العلاقات بين الاستراتيجي والتكتيكي ما زالت ناجحة حتى الآن وتتطوّر، وفي أحيانٍ كثيرة تتخطى ما هو مكتوب. ومن المعروف أن قدرات المقاومة في فلسطين تشكلت بدعم كبير (مادياً ولوجستياً وعسكرياً) من هذا المحور كلِّه، وخصوصاً الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
بالتالي، فإن هذه المقاومة مدعومة اليوم من كل المحور، وهي عندما ترى أن ثمة حاجة للدعم العسكري الشامل من خلال فتح الجبهات الحربية، فإن كل المحور سيكون جاهزاً لذلك، إلا أن هذه المقاومة الآن في موقع قوة، وهي صاحبة المبادرة واليد العليا، ولا تزال تفرض قوتها على الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يستطع تحقيق أي انتصار على الرغم من التوغل البري.
ولا يستطيع العدو ولا الولايات المتحدة الأميركية التي تهدد المحور فصل الساحات عن بعضها البعض، ولا يزال أمن الكيان مهدداً دون أن يستطيع تحقيق أي أهداف ردعية. إنه في لحظة انهيار، ومحور المقاومة في لحظات أكبر لمراكمة القدرات.
خلاصة القول، إن تدخل محور المقاومة كاملاً عبر الحرب الشاملة لم يحن وقته بعد، بل على العكس من ذلك سيؤدي إلى إعطاء الاحتلال ذرائع أكبر ليفتح حرباً شاملةً بمؤازرة أميركية غربية، بشكل يمكن أن يجعل التوقيت الحربي بيده، وليس بيد محور المقاومة، وخصوصاً أن المواجهة الأفضل حالياً تتمثل بالاستنزاف.
وما دام ليس هناك تهديد وجودي للمقاومة التي لا تزال حاضرة، فإن الحرب الشاملة من خلال فتح المحور لها لم يحن وقتها، بل الأهم الآن هو إشغال العدو واستنزافه من دون أن يتمكن من شن حرب شاملة تشعل كل بلدان محور المقاومة، وقد تكون في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل".