متى يقتنع الغرب بعبثية الحرب في أوكرانيا؟
لم يكن الغرب جادّاً منذ البداية في التوصل إلى اتفاقٍ مع روسيا سواءٌ حول الضمانات الأمنية، أو تطبيق اتفاقية مينسك.
تدخل الحربُ الروسيةُ الأوكرانيةُ السنة الجديدة، ولا يبدو أن هناك حَلّاً يلوح في الأفق حتى تضع أوزارها، بسبب إصرار الغرب على الدعم غير المحدود لأوكرانيا، رغم أن الأخير لم يجن منها المكاسب المرجوة، ما يطرح السؤال عن جدوى هذه الحرب.
في أدبيات الصراع الدولي، لا يمكن لدولة إدارة صراعاتها الدولية، من دون دراسةٍ مسبّقةٍ للوضع الدولي وقوة الدولة الخصم، ومدى تأثيرها الإقليمي والدولي، وقدرتها على المقاومة والصمود مع وضع تصورٍ خاصٍ لردة فعلها المتوقّعة حال اندلاع الصراع معها، حتى لا ترتدّ عليها نتائج صراعها.
كما أن العلاقات الدولية، هي مجموعة من الأنماط المتنوعة من التفاعلات، منها التصارعية أو التعاونية أو المتشابكة، والمقصود بالأخيرة أن الدول تتصارع فيما بينها في مجال وتتعاون في مجالات أخرى، وهذا يعني أن الدول تأخذ في الحسبان مصالحها حتى مع وجود الصراع، في إطار ما يسمى بالبراغماتية السياسية.
عندما كانت روسيا تُعِدُّ العُدّةَ لعمليتها الخاصة في أوكرانيا، كان الغرب يراهن على الإجراءات القاسية التي سيتخذها ضد روسيا حال شن الأخيرة حربها على كييف، واثقاً من أنها ستسبب انهياراً للاقتصاد الروسي وستستنزفه عسكرياً، مستحضراً زمن حرب أفغانستان رغم اختلاف الظروف والسياقات والأشخاص بين الحقبتين، وبالتالي إعادة روسيا إلى الحقبة اليلتسنية.
لذلك، لم يكن الغرب جادّاً منذ البداية في التوصل إلى اتفاقٍ مع روسيا سواءٌ حول الضمانات الأمنية، أو تطبيق اتفاقية مينسك حول الشرق الأوكراني، وهذا ما أكدته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، أن الغرب ماطل في تنفيذ اتفاق مينسك حتى يتم إعداد أوكرانيا لشن الحرب على موسكو. ما ينم عن سوء نية الغرب في التعامل مع روسيا في هذين الملفين.
وكما قلنا سابقاً، إن إدارة الصراع الدولي تتطلب دراسة الموقف بِرَوِّيةٍ، وقراءة نقاط قوة وضعف الخصم ودرجة تأثيره في الساحتين الإقليمية والعالمية وردّة فعله. لكن الغرب في تعامله مع روسيا لم يأخذ في الحسبان هذه المعطيات، بل تعامل معها وكأنها إحدى "جمهوريات الموز"، مندفعاً وبقوة نحو نهج العقوبات لأنه كان واثقاً من فعاليتها ضد موسكو، ما يتلاءم مع العقل الاستراتيجي الغربي.
واليوم تقارب هذه الحرب سنتها الأولى، من دون أن يجنيَ الغرب النتائج التي كان يتوخاها في روسيا، رغم الدعم العسكري الذي قُدِّم لكييف، والكم الهائل من العقوبات-ما شكل سابقة في تاريخ العلاقات الدولية-التي فرضت على موسكو، الرامية إلى تقويض الاقتصاد الروسي وانهيار الدولة الروسية.
وبدل إعادة النظر في طريقة التعامل مع روسيا، زاد الغرب من دعمه العسكري والاقتصادي غير المحدود لأوكرانيا، بالرغم من نتائجه الكارثية أهمها قرب نفاد الأسلحة من المخازن، فضلاً عن الركود الاقتصادي الذي أدخل الاقتصاد الغربي في أزمات متتالية، التي كان من تداعياتها، تصاعد المظاهرات المنددة بالغلاء وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن الغربي. وهي السمة التي تطغى على الحياة اليومية للمواطن الغربي، فضلاً عن التشرذم في المواقف السياسية بين الحكام الغربيين-تجاه موسكو-من جرّاء تضارب المصالح. ما بات يهدد وحدة الغرب التي طالما تشدّق بها منذ عقود.
أما على المستوى الدولي، فقد فشل الغرب في تشكيل تحالف دولي كبير بهدف عزل روسيا على كل الصُّعُدِ الاقتصادية والسياسية، لدفعها إلى التراجع، رغم المساعي التي بذلت في هذا الباب. اللهم ذلك القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة على إدانة الحرب الروسية على أوكرانيا، الذي يبقى غير ملزمٍ ولا يُحْدِثُ أي أثر قانوني أو سياسي، وهذا دليل على أن الدبلوماسية الغربية تضاءل حجم تأثيرها.
ومع ذلك، يصر قادة الدول الغربية على مواصلة الدعم لأوكرانيا، متجاهلين مصالح شعوبهم وأزماتهم الحالية، رغم عجز الجيش الأوكراني المزوّد بالأسلحة الغربية والمستشارين العسكريين من حلف الناتو، في إلحاق هزيمة بالجيش الروسي ودفعه إلى الخروج من أوكرانيا.
ورغم أن العملية العسكرية الروسية تخللها بعض الأخطاء، كما صرح بذلك مؤخراً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن موسكو نجحت في التعامل مع الأزمة بحنكةٍ وذكاءٍ، وتدرّج في إدارة الصراع مع الغرب، نظراً لتعاملها مع قادة الأخير ومعرفتها الجيدة بطريقة تفكيرهم، طيلة الثلاثة عقود الماضية، لذا سارت روسيا في مسارين الأول يتمثل في العمل على تحصين الجبهة الداخلية وجعل الشعب الروسي يلتف حول قيادته السياسية، والبحث عن حلول للحيلولة دون وقوع انهيار اقتصادي، والثاني التدرج في العمليات العسكرية وفقاً للمستجدات الطارئة على ساحة المعركة بإدخال أسلحة جديدة إلى ميدان العمليات العسكرية، وتثبيت مواقعها في أراضي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك التي ضمتهما مؤخراً من جهة أخرى.
كان من الممكن تفادي هذه الحرب منذ بداية الأزمة، لو احتكم الساسة الغربيون إلى منطق الحكمة والتعقل، بدل الصراع، وتجاوبوا مع المطالب الأمنية الروسية التي تبقى مشروعةً وحقيقيةً، وليست من وحي خيال أصحاب القرار في الكرملين، كما يدعي الغرب، لكن العنجهية الفارغة والثقة الزائدة في مخططاتهم، هي التي أوصلتهم إلى الأزمة التي يعيشون على وقعها.
ختاماً على الغرب أن يقتنع بعدم جدوى هذه الحرب، وأن النظام العالمي متعدّد الأقطاب ينبلج صبحه رويداً رويداً، في مقابل أفول عقود الهيمنة الغربية على المسرح الدولي، لكن يبقى السؤال الأهم متى يقتنع الغرب بذلك؟ لننتظرْ ونرَ.