ماذا كان سيحل بروسيا لو سمحت سوريا بعبور خط الغاز القطري؟
يرجّح كثير من الباحثين أنَّ قوة الموقف الروسي اليوم سببها الأبرز والوحيد هو الدولة السورية وقرارها الحاسم.
تمثّل الذكاء الروسي في عراكه مع الدول الأوروبية الداعمة لانضمام أوكرانيا إلى الناتو في عدم قطع الغاز عنهاK بل في التلاعب بهذه الورقة بمنتهى الذكاء، فكانت الواردات ثمناً للخسارة العسكرية الروسية، ووصل الأمر بالروسي في مقابل استمرار الإمداد، في ظل كونه المصدر الأقرب والأوفر، حد اشتراط عملة المبادلة بعيداً من الدولار كمقابل مالي وسياسي للعقوبات التي فرضتها أميركا على روسيا وبعض الدول الأوروبية.
اليوم، تواصل أسعار الغاز صعودها الصاروخي في أوروبا، على وقع خفض إمدادات الغاز الروسي عن طريق خطوط أنابيب تنويع النقل (نورد ستريم، وتركي ستريم، وما إلى ذلك)، إذ قررت دول الاتحاد الأوروبي اليوم خفض استهلاك الغاز بنسبة 15% تحسّباً لفصل الشتاء.
أعلنت روسيا في وقت سابق وقف إمدادات الغاز في خط "نورد ستريم 1" الذي يمدّ ألمانيا بالغاز بدعوى أعمال الصيانة. هذا الأمر غير المقنع دفع المحلّلين إلى القول إنّ حرب الطاقة تستعر بين الروس والأوروبيين في ظل انعدام أيّ أفق للمناورة أمام الأوروبيين، ما يقود إلى البحث في أسباب قوة موقف روسيا، التي تقف وراء تفوّقها على الأوروبي في حربه عليها.
يرجّح كثير من الباحثين أنَّ قوة الموقف الروسي اليوم سببها الأبرز والوحيد هو الدولة السورية وقرارها الحاسم عدم مرور خط الغاز القطري التركي؛ هذا الخط الذي اقترحته قطر عام 2009، وكان يهدف إلى بناء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي يعرف بخط قطر تركيا، عبر الأراضي السعودية والأردنية والسورية والتركية، من منطلق امتلاك قطر المؤهّلات الكفيلة بأداء دور المصدّر والمغذي، وبوصفها تمتلك ثالث أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا وإيران. ويكفي أن نشير إلى أنّ الجزء القطري من حقل "جنوب فارس" يضم أكثر من 900 تريليون قدم مكعب.
عملياً، لا بد من ذكر المكاسب التي كانت قطر ستجنيها لو وافقت سوريا على مرور الخط بينها وبين تركيا عبر أراضيها، إذ كان سيسهم في تعزيز اقتصاد قطر، الدولة الصغيرة نسبياً، الطامحة إلى أداء دور قيادي في المنطقة العربية، ويقلّل اعتمادها على الجارة إيران، المعادية للغرب، فضلاً عن العائدات الضخمة من الاستثمارات الأجنبية. وللإشارة، فقد عملت قطر على استقطاب شركات النفط والغاز العالمية، مثل "شيل" و"توتال" و"إيكسون موبيل".
بالنسبة إلى وجهة تصدير الخط القطري التركي، فقد كانت القارة الأوروبية وجهته الرئيسة لتحقيق رصيد كبير من الاستثمارات، والدليل هو توجّه الطرفين إلى إبرام العقود مع الشركات الأوروبية، والأمثلة حاضرة، مثل توقيع قطر عقوداً مع شركات "توتال" الفرنسية و"شيل" الألمانية لتطوير الجزء الخاص بها المشترك مع إيران.
وقد تجسّدت أهمية الخط القطري التركي في كونه الأقرب إلى أوروبا، فضلاً عن كونه مفضّلاً للاتحاد الأوروبي، إذ يسمح لأوروبا باستيراد الغاز من قطر بسعر أرخص بنحو 3 مرات من ذاك الذي تصدّرُه روسيا. ولو قدر لهذا الخط النجاح، لكان كفيلاً بتحرّر القارة العجوز من الاعتماد على الغاز الروسي، ولأثّر سلباً في الاقتصاد الروسي.
ولو نُفّذ الخط القطري التركي، لكان الآن في ظل العملية الروسية الأوكرانية ورقة رابحة بيد الدول الأوروبية، ولكانت المواجهة العسكرية أشد وطأة، والعقوبات الاقتصادية أكثر شمولاً وأطول زمنياً، ولما أمكن روسيا الصمود فترة طويلة في ظل المؤثرات السلبية التي أمكنها تجنّها.
وبالنسبة إلى الخسارة التي كانت ستصيب روسيا لو مرّ الخط القطري التركي، يمكن القول إنّ صادرات النفط والغاز تشكّل ثلثي مجمل صادراتها، ولكانت خسارة روسيا نحو مليار دولار يومياً من الريع الغازي، وفقاً لما أظهرته البيانات التي نشرتها إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
في الجانب الآخر، تعد ألمانيا من أكبر مستوردي الغاز الطبيعي من روسيا، وبالتالي كانت ستخسر تالياً قسماً كبيراً من واردتها المحققة بتصدير الغاز الذي يبلغ سنوياً نحو 150 مليار متر مكعب من الغاز إلى الأسواق الأوروبية، وهو ما يمثّل ثلث احتياجات القارة بقيمة تصل إلى 50 مليار يورو، ولو أصابت هذه الخسارة الميزانية الروسية، لكانت نكسة اقتصادية كبيرة.
ولو تساءلنا عما لو مر الخط القطري عبر سوريا إلى تركيا، فالقارة العجوز: هل كانت أوروبا لتضعف أمام روسيا كما تضعف اليوم؟ سيكون الجواب: بالتأكيد لا، ويكفي أن نشير إلى خسارة أوروبا، إذ قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 17 حزيران/يونيو الفائت: "إن خسارة الاتحاد الأوروبي المباشرة من فرض العقوبات على روسيا بلغت إلى الآن 400 مليار دولار"، وأكّد أن الميزانية الروسية عام 2022 ستسجّل فائضاً بقيمة 3 تريليونات روبل (51.7 مليار دولار).
لو كانت أوروبا تحصل على مواد الطاقة من مصادر أخرى غير المصدر الروسي، وبتكلفة مقبولة، لما وصلت خسارتها إلى هذه الدرجة، إذ إنها تستورد 40% من الغاز الذي تستهلكه من شركة "غازبروم" الروسية، ما يطرح سؤالاً مهماً: ما تكاليف المصادر البديلة؟
كانت مبادرة الغاز الخليجي في مقابل الغاز الروسي مطروحة، وتحديداً الغاز القطري، ولكنّ المشكلة أن 95% من غاز قطر بِيع لعقودٍ طويلة الأجل لدول آسيوية، والنسبة الباقية لا تكفي حاجة أوروبا.
بادر الرئيس الأميركي جو بايدن إلى فتح سوق جديدة ضخمة للشركات الأميركية، لكن المشكلة هنا أيضاً أن أوروبا تستورد من روسيا سنوياً نحو 155 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، معظمها بواسطة شبكات الأنابيب، فيما تعرض الولايات المتحدة تزويد أوروبا 15 مليار متر مكعب سنوياً فقط على المدى القصير، فكيف سيجري تعويض نقص مقداره 140 مليار متر مكعب من الإمدادات سنوياً في الفترة قصيرة المدى؟ هذه محاكمة أتفق مع كل باحث طرحها.
أما مشكلة استيراد الغاز من قطر والجزائر والنروج ونيجيريا وأستراليا ومصر وغيرها من الدول، فتتمثّل في الصعوبات اللوجستية وصعوبة تجهيز البنى التحتية، مثل موانئ استيراد الغاز المسال. لذلك، لا منافس لروسيا في إمدادها أوروبا بالغاز، لأنّ إمدادات الغاز الطبيعي الروسية تمتد عبر شبكات الأنابيب إلى دول أوروبا الشمالية والشرقية والوسطى، ولا سيما ألمانيا.
السؤال الأخطر في هذا الصدد يدور حول التساؤل عن النتائج التي ترتّبت على عدم سماح سوريا بمرور الخط القطري. وهنا يمكن التذكير بأنّ روسيا تصدّر سنوياً نحو 150 مليار متر مكعب من الغاز إلى الأسواق الأوروبية، وهو ما يمثّل ثلث احتياجات القارة بقيمة تصل إلى 50 مليار يورو. لو كان الخط القطري قد أنجز، لكانت قطر تصدر عبر سوريا إلى تركيا فأوروبا ما يكفيها قرابة 50 سنة من حقل جنوب فارس الجزء القطري، وهو الحقل الذي يضم أكثر من 900 تريليون قدم مكعب، ولكن عدم قيامه حرم أوروبا هذه الكمية.
في النتيجة، لم يكن بالإمكان في مستهل الأحداث في سوريا توضيح أسبابها العامة، لأن التفاصيل كانت هي الحاكمة. والآن، بعد بدء الحرب الروسية والأوكرانية ومحاولة الغرب التلاعب بأمن روسيا، وفي المقابل استخدام روسيا ورقة الغاز، وطلب المقابل بالروبل الروسي، واستغلال نقطة ضعف أوروبا المتمثلة بكون روسيا هي المصدر الرئيس لأوروبا فيما يخص الغاز، من طريق آخر أمام أوروبا، لأنّ الطريقين الإسلاميّ والقطري لم ينجزا.
بالعودة إلى سوريا، فقد اتّضحت الأسباب بمنظرها العام، فاستهداف سوريا كان خطوة ومقدّمة لاستهداف روسيا، لأن المراد أن يكون خط الغاز القطري التركي بديلاً من الغاز الروسي، ثم استهداف أمن روسيا عبر الذريعة أو الفزاعة الأوكرانية، ولا سيما بعد التجهيزات التي قامت بها قوات الناتو واستخباراتها في أوكرانيا، بما في ذلك المخابر والمفاعلات البيولوجية؛ أحد أخطر أصناف الجيل الخامس، بحيث كانت خططهم كفيلة بتوجيه ضربة قوية إلى روسيا. ومن المؤكد أنه كان هناك تحرّك بقيادة أميركا ضد روسيا.
ولكن ورقة الطاقة الموجودة بيد روسيا قلبت المعايير، والفضل أولاً وأخير يعود إلى عدم مرور الخط القطري التركي عبر سوريا، وهو ما يجعل أمن روسيا اليوم واستقرارها واستمرارها تعود كلُّها إلى قرار القيادة السياسية السورية وصدقيتها في مبادئها وعلاقتها بحلفائها وقوتها على أرض الواقع، وإن كانوا أصحاب فضل جزئي، خصوصاً عام 2015، فسوريا وقائدها وجيشها أصحاب فضل كلي على روسيا والقيادة والشعب الروسي.