لماذا أصبح النسق الدولي متعدد الأقطاب مطلب شعوب العالم؟
سارع الغرب إلى فرض سياسته بطريقةٍ تَتَّسِمُ بالتعالي والغطرسة على جميع الدول، سواء الحليفة أو العدوة، عبر نهب ثرواتها والتدخل في شؤونها الداخلية وفرض قيمه الليبرالية.
يقول جوزيف ناي: "إذا ما حقَّقت دولة أو أمة ما قوةً باهرةً، وأصبحت أقوى من اللازم، فما يحدث هو أن تتكاتف الأمم والدول والشعوب الأخرى وترصّ صفوفها لكي تبني ما يوصف بأنه توازن القوى مع الدولة العظمى التي أصبحت قوتها زائدةً عن الحد المعقول".
يفهم من كلام جوزيف ناي أن القوى الدولية تتصارع، وكل منها يحاول فرض أجندته وتصوره لما يجب أن يكون عليه المشهد الدولي. هذا الصراع تتبعه تحولات في بنية النسق السياسي الدولي التي تؤدي إلى إحداث توازنٍ دوليٍّ، تبعاً لما تقتضيه مصالح الدول.
لقد مرَّ النسق الدولي بعدة محطّاتٍ تاريخيةٍ، بدءاً بمعاهدة ويستفاليا لعام 1648 التي أنهت الحروب الدينية، وأفرزت نسقاً دولياً متعدد الأقطاب امتد نحو 3 قرون حتى الحرب العالمية الثانية التي أنهته، وأسفرت عن بروز نسقٍ دوليٍّ ثُنائي القطبية بقطبيه المعسكر الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وصولاً إلى حدود العام 1991، حين عرف العالم نظام الأحادية القطبية بعد اندثار المعسكر الشيوعي.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر العام 1991 وأفول شمس الشيوعية، اعتبرت الدول الغربية أن صراع الأيديولوجيات انتهى إلى الأبد بانتصارها على الأيديولوجيا الماركسية اللينينية، وهو ما تجلى في كتابات المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ"، الذي جعل من الديمقراطية الليبرالية أسمى ما وصل إليه التطور التاريخي والثقافي للبشرية، ورأى أنه قمة الحكومة العالمية، وبالتالي ستسود إلى الأبد.
لذا، سارع الغرب إلى فرض سياسته بطريقةٍ تَتَّسِمُ بالتعالي والغطرسة على جميع الدول، سواء الحليفة أو العدوة، عبر نهب ثرواتها والتدخل في شؤونها الداخلية وفرض قيمه الليبرالية، وإن تعارضت مع خصوصيات الدينية والثقافية للشعوب، جاعلاً القيم الغربية تسمو على القوانين الوطنية لتلك الشعوب. كل ذلك باسم ما يسمى "السنن الكونية"، وكان يربط أي مساعدةٍ ماليةٍ بمدى تطبيقها.
أما الرافضون لسياساته، فكان مصيرهم التدخل العسكري المباشر في حالة العراق وليبيا وأفغانستان أو التشجيع على إحداث الثورات داخل بلدانهم باسم الحرية والديمقراطية في الحالة السورية والليبية واليمنية والفنزويلية والأروغوانية أو فرض عقوبات اقتصادية ومالية، كما هي حال الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكوريا الشمالية وكوبا.
ولا يمكن إنكار حقيقة أنَّ النظام الليبرالي نجح في ذلك إلى حد بعيد، باعتباره الطرف المهيمن على الساحة الدولية، في ظل نظام الأحادية القطبية الذي كان مسيطراً خلال القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة.
وعلى هذا الأساس، تعالت الأصوات الداعية -خصوصاً من روسيا والصين- إلى وضع حد للنسق الدولي الأحادي القطبية واستبداله بنظام متعدد الأقطاب، يقوم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وتسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية، بما يتوافق وميثاق الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي العام.
وقد حظيت هذه الأصوات بالدعم والقبول لدى العديد من الدول، لإيمانها الشديد بأن النظام الدولي الجديد فرصةٌ لإعادة تشكيل العالم وفق أسس ومبادئ جديدة تقوم على احترام مصالح الأمم والشّعوب بعيداً من الهيمنة والاستكبار، وبصرف النظر عن وضعها في المسرح العالمي، وهذا ما يفسر الهرولة نحو الانضمام إلى منظمة البريكس أو توقيع العديد من الاتفاقيات والشراكات الاقتصادية والعسكرية مع الصين وروسيا.
ختاماً، إن النسق الدولي أحادي القطيبة آخذ في التأكّل بشهادة العديد من المفكرين الغربيين الذين توقعوا أن يندثر مع مرور الوقت، من بينهم المفكر الأميركي فريد زكريا الذي قال: "بالطبع، لن يبقى العالم أحادي القطبية لعقود، ومن ثم سيتحوّل في يوم واحد، هكذا فجأة، إلى عالم ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب، بل سيكون هناك تحول بطيء في طبيعة العلاقات الدولية. ستستمرّ الأحادية القطبية بكونها حقيقة محددة للنظام الدولي في الوقت الحاضر، لكنَّها ستصبح أضعف فأضعف مع كلِّ عام. وفي الوقت نفسه، ستزداد قوة الدول الأخرى واللاعبين الآخرين".