لبنان وصيغته على الوقع الفرنسي الفاتيكاني
تدرك فرنسا ويعرف الفاتيكان أن الدعوة إلى عقد سياسي واجتماعي جديد سينسف الصيغة الحالية، التي تعطي المسيحيين رئاسة الجمهورية على رغم تقلص الصلاحيات بعد الطائف.
تحت وطأة العواصف العاتية، التي تضرب العالم والمنطقة، يُبحر لبنان، بكل تناقضاته الطائفية والمذهبية وانقساماته التي تهدّد وجوده الكياني، في أعتى أزمة يعانيها منذ تأسيسه عام 1920، وبعد استقلاله عام 1943، وتخطيه الحرب الأهلية المصغَّرة عام 1958، والحرب الأهلية بين عامَي 1975 و1990.
ما بين التفسيرات الدستورية المتناقضة، وبغياب مرجع دستوري موزون يُعتَدّ به ويكون فصلاً بين كل هذه التفسيرات، وخصوصاً المادة الـ62 من الدستور، والتي تقول: "في حال خلوّ سدة الرئاسة لأي علّة كانت، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء"، بحيث يظهر التناقض في تفسيرها، إن كانت تشمل حكومة تصريف أعمال، والاجتهادات بشأنها، ومحاولة تعويمها، وغيرها من التفسيرات الزمخشرية، والتي لا تغني ولا تسمن من جوع، وبين بوادر الحلحلة الجزئية التي تلوح في الأفق بشأن تشكيل الحكومة في الأيام المقبلة، تأتي معضلة الانتخابات الرئاسية، والتي توحي جميع المؤشرات بخلوّ هذا الكرسي للمرة الثانية بعد التمديد للرئيس لحود من عام 2004 حتى عام 2007، وبعد نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان في خريف عام 2014، وبقائه شاغراً مدة عامين، حتى انتخاب العماد عون رئيساً في خريف عام 2016.
بحسب آخر المعطيات، تقوم فرنسا بتنظيم عودتها إلى الساحة اللبنانية للمحافظة على آخر موقع مسيحي في الشرق، وهو ما ظهر بصورة واضحة بعد انفجار المرفأ (آب/أغسطس 2020)، لكن ما كبح هذا الجماح هو أزمة كورونا التي ضربت العالم، والأوضاع الداخلية الفرنسية، مروراً بالانتخابات الفرنسية وإعادة انتخاب الرئيس ماكرون، حتى اندلاع الحرب الروسية مع الغرب، والتي تدور رحاها في أوكرانيا وإمكان تفلّت الأمور من عقالها، والانتقال إلى مرحلة لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
ويتضح، على نحو مبطّن، دور تحاول السفارة البابوية أن تقوم به، انطلاقاً من إيمانها الرسولي بوحدة هذا البلد والمحافظة على الوجود المسيحي المتجذّر فيه منذ مئات الأعوام، فكرياً وثقافياً وحضارياً وتراثياً وسياسياً، وخصوصاً منذ القرن الرابع عشر، مروراً بالحكم العثماني، والأوضاع الخاصة كالقائممقاميتين ومتصرفية جبل لبنان، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى بداية الحرب العالمية الأولى. لذلك، لا بدّ من الإشارة إلى عدة أمور أرخت ظلالها على الساحة اللبنانية:
أولاً: كان التفكير الفرنسي جدياً في الدعوة إلى مؤتمر في إحدى المدن الفرنسية لإعادة بلورة أفكار تطلق عجلة الركود اللبناني، سياسياً واقتصادياً، لكن الولايات المتحدة، من خلال سطوتها وتطور الأحداث العالمية، من أزمتي الغذاء والطاقة واضطراب الأوضاع في أوروبا، أجّلت هذا الطرح، بل ألغته.
ثانياً: تدرك فرنسا ويعرف الفاتيكان أن الدعوة إلى عقد سياسي واجتماعي جديد سينسف الصيغة الحالية، التي تعطي المسيحيين رئاسة الجمهورية على رغم تقلص الصلاحيات بعد الطائف، ومواقع الفئة الأولى، من قيادة الجيش إلى حاكمية مصرف لبنان وغيرهما. لذلك، تؤكد القيادات المسيحية، جهاراً نهاراً، تمسّكها باتفاق الطائف (1989).
ثالثاً: استنتجت فرنسا، التي تحافظ على علاقة شبه سوية بالخط المقاوم في لبنان، أن أي دعوة إلى عقد اجتماعي وسياسي جديد ستبلور صيغة جديدة تُكرَّس رسمياً بعيداً عن صيغة المناصفة الحالية، والتي تحمل مثالثة مبطّنة، ستُشرَّع على رغم إنكار البعض، لكنها أمر واقع نظراً إلى الموقعين السياسي والعسكري اللذين تتبوأهما المقاومة، ونظراً إلى تشعباتها الإقليمية الواضحة للقاصي والداني.
رابعاً: يدعم الفاتيكان رئيساً وسطياً يفتح القنوات مع الجميع، مع تعذّر وصول مرشح للثامن أو الرابع عشر من آذار، إلّا في حال حدوث توافق على سليمان فرنجية بغطاء مسيحي من "القوات"، وبتسهيل تأمين النصاب (الثلثين) في الجلسة الأولى، وبالأغلبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تليها.
خامساً: ترى السعودية، بعد كل هذه الأزمات التي تعصف بالعالم، أنها تستطيع أن تؤدّي دوراً أكبر، عبر تنسيق فرنسي فاتيكاني، وخصوصاً بعد إخفاقها في تشكيل كتلة نيابية لبنانية في البيئة الإسلامية تتبع لها رسمياً، وعجزها عن كسر حيثية الرئيس سعد الحريري. لذلك، رأينا حركة السفير المكوكية، والتي ستستمرّ بوتيرة تصاعدية مع تقدم الاستحقاقات الدستورية.
سادساً: من الواضح، في الأيام المقبلة، وخصوصاً إذا استمر التقارب السعودي الإيراني، أن فرنسا ستعود لتحاول اللعب على وتر الأم الحنون، بحيث سيكون الملف اللبناني وجبة دسمة على طاولة اللقاءات السعودية الإيرانية، بالتنسيق مع الفرنسيين.
سابعاً: يحاول الفرنسيون طرح اسم مقرّب جداً إلى قوى الرابع عشر من آذار يلقى قبولاً من سائر الفرقاء، لكنه جوبه بالرفض من القيادة القوّاتية. ويشبه ذلك ما حدث بعد سقوط الاتفاق الثلاثي في 15-1-1986، بحيث اتخذ السوريون قراراً بمقاطعة الرئيس أمين الجميل، واستمروا في موقفهم إلى حين انعقاد القمة العربية في الجزائر عام 1988، وكان الأميركيون طلبوا من الرئيس الجميل اصطحاب مستشاره جوزيف الهاشم معه إلى المؤتمر، لكن الجميل رفض هذا الاقتراح، وكانت أسباب رفضه تعود إلى خوفه من أن يكون ظهور الهاشم في اجتماعات القادة العرب مقدمة لبروز اسمه كأحد المرشحين الأقوياء لرئاسة الجمهورية، في وقت كان الجميل يسعى للتمديد، بحيث كان اسم الهاشم من الأسماء المقبولة لدى السوريين، حتى إن الرئيس حافظ الأسد قال له مرة: "على الرغم من مهاجمتك لنا في الإذاعة ("صوت لبنان") مئات المرات، فإنك لم تقم بالاتصال بـ"إسرائيل" ولا مرة".
بناءً على ما تقدّم، لا شكّ في أن المرحلة صعبة، وما تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس إلّا تفصيل صغير في ندوب ما فتئت تأكل الجسد اللبناني منذ عقود، فالمشكلة مشكلة هوية وأزمة نظام، وهي لن تُحل للأسف إلّا بخراب البصرة. أبعدَ عنا الله تجرّع هذه الكأس... والسلام