لبنان بين العرب وفرنسا وأميركا.. مكانك راوِح
لن تقدم الانتخابات ونتائجها الحلول النموذجية لبلد يرزح تحت وطأة مشاكل بنيوية منذ التأسيس حتى الآن، وتعصف به جميع أنواع الرياح.
أمام التطورات المتلاحقة التي تعصف بالعالم على الجبهة الغربية لروسيا أو في الأيام المقبلة في ما خص الصين وعودة تايوان إلى كنفها، وجميع الإسقاطات السياسية والاقتصادية نتيجة العسكرة الممزوجة بأمن قومي هنا وحق سيادي هناك، وما ترتّب وسيترتب عليها من ارتفاع أسعار وتضخم وفقدان الأمن الغذائي العالمي، يقف اللبنانيون أمام انتخابات نيابية هي السابعة بعد انتهاء الحرب الأهلية، والتي خمدت مدافعها في نهاية العام 1990، وبقينا أمام نار سياسية وتضارب مصالح والتقاء وافتراق محاور طيلة 3 عقود، كان أبرزُ محطات العالم فيه، انهيارَ الاتحاد السوفياتي في كانون الأول/ديسمبر 1991، وحربَي أفغانستان 2001 والعراق 2003، والحرب الصهيونية على لبنان في تموز/يوليو 2006، ثم انتعاش آمال القوى الصاعدة (روسيا التي تحمل مجد الاتحاد السوفياتي، والصين التي تتربع على عرش الاقتصاد العالمي فعلياً وليس اسمياً، والقوى الإقليمية (إيران وتركيا) التي تزاحم القطب الأوحد، أي الولايات المتحدة!).
في لبنان الذي يقف على حافة الهاوية منذ تأسيسه، من المرجّح أنَّ انتخابات نيابية ستُجرى في 15 أيار/مايو القادم ستحمل في طياتها صراعاً مستمراً بين قوى الثامن والرابع عشر من آذار ومجموعات ما يسمى بالتغيير أو المجتمع المدني، بعناوين متعدّدة، مثل نبذ الطبقة السياسية ومحاربة الفساد وإعادة بناء الدولة...
تبرز في هذا الإطار الأدوار الخليجيّة والفرنسيّة والأميركيّة. عرب الخليج ذهبوا بعيداً في رفع الصوت ضد المقاومة، وفي إعلاء راية اللاءات الواضحة والمضمرة، فالمملكة السعودية تحاول الهرولة، لعلّها تسجل نقاطاً في إعادة صوغ علاقاتها من خلال الانتخابات النيابية، لتعود الحجر الأساس في مواجهة تبعات الاتفاق النووي المرتقبة، رغم كلّ اللهجة الخافتة ضد إيران واللقاءات التي حصلت وستحصل، إلا أنّها تعرف أن ساحة لبنان لا يمكن أن تترك للعروض الإيرانية المقدّمة بشكل مستمر في مجالات الطاقة والتسليح وغيرها، وهي معنية أيضاً بتوضيح صورتها مع شريحة من اللبنانيين اعتبروا أنّها وراء انكفاء زعيمهم السياسي حالياً. لذلك، كانت عودة السفراء في هذا التوقيت خلال شهر رمضان، وقبل شهر من الانتخابات النيابية، ومحاولة قلب الكفة لمصلحة قوى الرابع عشر من آذار.
بدورها، تحسن الإمارات الاصطفاف في المنطقة الوسطى بين جبهتين، وإن كانت علناً رأس حربة في مقاربتها شؤون المنطقة وشجونها وقيادتها قطار ما يُسمى "التطبيع"، إذ إنها تأمل أدواراً يمكن أن تُسند إليها من خلال عملية التقارب مع الدولة السورية، وإعادة صوغ علاقات جديدة بين دمشق والرياض، وإسقاطها على الواقع اللبناني بتوجّه جديد عنوانه "إ-س-س"، أي الإمارات وسوريا والسعودية.
ولذلك، لا تكترث كثيراً إلى نتائج الانتخابات، لدرايتها بأن لبنان لا يُحكم بأربعة أو خمسة نواب لطرفٍ تُرجّح كفّته، بل بتوازنات إقليمية مع صبغة دولية، تمنع الحسم لجهة في القضايا المصيرية.
الفرنسيون بدورهم قديمو العهد في لبنان منذ مجيئهم لحماية الطائفة المارونية في العام 1860 إبان الحرب الدرزية – المسيحية المشؤومة، ويعرفون خبايا النظام الضالعين في وضع مداميكه.
لذلك، يحاولون الدفع والترويج للملكة السعودية، وخصوصاً بعد صفقات السلاح المبيعة للملكة، وفي ظل هذا الوضع الدولي الضبابي الذي ينذر، إن استمر، بانهيارات عالمية لاقتصادات ثابتة، فهي تفتح على كل الأطراف مع محاولة بلورة الموقف السعودي وتبنيه بالشكل، والترويج دوماً لفكرة أن لا حل إلا بعقد جديد من دون حصول حرب تؤدي إلى توقيعه، وهذه المرّة لن يكون الطائف أو الدوحة، بل في باريس أو سان كلو أو نيس أو غيرها.
الأميركيون الذين اختبروا لبنان منذ العام 1958 إبان الحرب الأهلية، حين تجاوب وقتها المسلمون مع الدعوة القومية العربية بقيادة الرئيس عبد الناصر، كانوا قد أنزلوا قوات المارينز وفقاً لمبدأ أيزنهاور المناهض للشيوعية الدولية، وبناء على طلب الرئيس كميل شمعون، وأعادوا اختباره في عز الحرب الأهلية البغيضة في منتصف الثمانينيات في العام 1984، بعد مغادرة القوات المتعددة الجنسيات، وفشل مؤتمر المصالحة الثاني في سويسرا، وخطف الغربيين في بيروت، وهم يتعمّدون إظهار حرصهم كالعادة على سير مؤسّسات الدولة والانطلاق نحو دمقرطة الحريات وترسيخها، فهي باعثة القيم وألف باء تصويب المسارات وانتهاج النهج الذي يرسّخ الفضائل القيمية العالمية، كما شاهدنا في يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وسوريا.
لذلك، تؤدي دوراً في عرقلة مشروعي الغاز والكهرباء من مصر والأردن أو تأخيرهما، تارة بحجة أمور تقنية في البلدين، وبحجة دفع مسؤولين فيهما إلى الحديث عن عدم أخذ إعفاءات خطّية من قانون قيصر، وأنّ الرد النهائي لم يأتِ، وتارةً بدعم بعض مجموعات المجتمع المدني أو حثّ بعض الدول الإقليمية مواربةً على تقديم الدعم لبعض اللوائح في بيروت الثانية أو البقاع الشمالي وغيرها.
بناءً على ما تقدم، لن تقدم الانتخابات ونتائجها الحلول النموذجية لبلد يرزح تحت وطأة مشاكل بنيوية منذ التأسيس حتى الآن، وتعصف به جميع أنواع الرياح، من جنوبية شرقية إلى شمالية غربية. فلنُدر آلة التصوير بثبات جنوباً، فهناك نرى الآفاق أوسع والصورة أوضح، فالسيوف تلمع وتتلألأ، والقطاف حتماً سيأتي، لتبقى فلسطين هي البوصلة...