كيف مات طلال سلمان.. مرتين؟
كيف يموت الصحافيّ مرتين؟ كيف تُجرَح روحُه بسكّين مسمومة، فتكفّ عن حبّ أي شيء، وعن الرغبة في أي شيء. جواب ذلك لدى طلال سلمان وحده.
كيف يموت الإنسان، أو تحديداً الصحافيّ، مرتين؟
اسألوا طلال سلمان.
الجواب لديه!
مات طلال سلمان أول مرة عندما أغلق أبواب "السفير". وبدأت سنةُ 2017 أيامها من دون "السفير"، وسكت إلى الأبد "صوتُ الذين لا صوت لهم"!. وارتاح، وتنفَّس الصُّعَداء من كان يُرهقهم هذا الصوت، ويُتعبهم، ويغيظهم، ويسبّب لهم تلبُّكاً فكرياً، وتبلُّداً في المشاعر القومية، حتى إنه يُصيبهم بجُلطة، بينما دُهش، إلى حدّ الصدمة، وإلى حدِّ الفجيعة، مَن كان يعني له هذا الصوتُ: قضيةً، وموقفاً، وهُويةً، وإيماناً بالوقوف في وجه الظلم، وضدّ الاحتلال الإسرائيلي، لفلسطين أولاً، وللجولان ثانياً، ثم للبنان ثالثاً!
منذ سنة 2017، طلال سلمان جسد لا روح فيه. ولا رغبة لديه في الكلام.
كيف يموت الصحافيّ مرتين؟ كيف تُجرَح روحُه بسكّين مسمومة، فتكفّ عن حبّ أي شيء، وعن الرغبة في أي شيء.
جواب ذلك لدى طلال سلمان وحده.
لكن، في سنة 2017، ليس طلال سلمان، وحده، من جَرَحَ روحَه اغتيالُ السفير.
الصّحافة العربية، كمهنة، كموقف، كفعل مقاوِم للاحتلال، كصوت في وجه الظلم، ككلمة "لا" في وجه سلطان جائر، كلها أصابها هذا الغياب المفاجئ، أو هذا القتل لـ"السفير"، بدُوار، بشلل، بداءٍ ما زالت تعاني تقرحاته.
فلسطين أيضاً نزفت عيناها دموعاً غزيرة، وخوفاً أغزر، صبيحةَ أول يوم من سنة 2017.
أصاب فلسطينَ غيابُ "السفير" بصُداع، بهلع، بنزفٍ للجروح وللروح. أصاب صوتَها شيءٌ يشبه الاختناق.
كان أيُّ فلسطيني، نعم أيُّ فلسطيني، داخل فلسطين المحتلة، أو خارجها؛ في المنافي العربية أو الغربية، كلما قرأ "السفير" تراءى له الشهيدُ ناجي العلي.
"السفير"، التي توهج معها، وفيها، ناجي العلي، وتوهَّجت بنبوءته، التي اخترعها، "حنظلة"... صار أيقونة نضالية فلسطينية، وعربية، وبات "حنظلة" مُرادفاً للهوية الفلسطينية المقاوِمة للاحتلال، والمستنكرة للخلافات الفلسطينية الفلسطينية!
كيف يموت الصحافيّ، مرتين؟
اسألوا طلال سلمان!
كانت روحه تسكن في طبقات مبنى "السفير" التسع، وكانت جريدة "السفير" روحاً ثانية لروحه، يزيّتها، ويُوقدها، ويرفدها بحبر المطبعة في الطبقات السفلية تحت الأرض، والتي تتهادى فوقها "السفير" شامخةً، ككلمة "لا" في وجه كلّ من يريد احتلال الأرض وقمع الحرية، فتتوهّج حينها روح طلال سلمان ولا تنطفئ.
لكن موت "السفير"، أو اغتيالها، سنة 2017، أمات معه، أو اغتالَ روح طلال سلمان العاشقةَ للحبر، والعاشقة لفلسطين، والعاشقة للحرية، ولرائحة الورق تتمايل فوقه الكلماتُ حرةً، كحرية فلسطين التي نذَر طلال سلمان "السفير" لها، والعاشقةَ لمراقبة صفحات "السفير"، التي كانت في الغالب ست عشرة، وأحياناً تكون ثماني عشرة، أو عشرين، من أول حرف فيها، من المانشيت، و"على طريق"، وافتتاحيات الراحل الكبير جوزيف سماحة، إلى بارقتها الشهيرة "جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان".
ثم جاء موت طلال سلمان الثاني، أمس، بعد أن لم يستطع جسده، الذي بات نحيلاً جداً، أن يقاوم فراق روحه التي غادرته منذ أن تمّ اغتيال "السفير"... فغادر، توقاً إليها، دنيا لم يُرد العيش فيها من دون "السفير".
وداعاً طلال سلمان.