كيف عملت "إسرائيل" على احتلالنا بالمصطلحات؟

ينبغي إعادة التركيز على الصراع العربي بشكل مباشر مع "إسرائيل"، أي أنّ الاعتداء على الفلسطينيين هو اعتداء على كلّ الشعوب العربية، وقضم الأراضي هو مساس بملكية أراضي العرب منذ أجدادهم.

  • الشعب بشكل عفوي بات يستخدم المصطلحات التي فرضها الاحتلال!
    الشعب بشكل عفوي بات يستخدم المصطلحات التي فرضها الاحتلال!

تقوم الاستراتيجية الأميركية في إدارة الحروب وتسويقها على مسارين متوازيين، عسكري وإعلامي، أي بالتوازي مع وضع الخطط العسكرية للتطورات الميدانية، تعمل على التخطيط الإعلامي لكيفية الدعاية للحرب واعتماد سردية مواكبة لهذه التطورات، في سبيل التأثير على الرأي العام وجذب تأييده، ومن هنا كانت الميزانيات الضخمة المخصصة للإعلام، الذي يشكّل أهم أدوات الحرب الناعمة.

انطلاقاً من كون الكلمة أساس الإعلام، فإنها بحد ذاتها سلاح فتّاك لا يقل أهميةً عن البندقية، وبذلك انتهجها الغرب في إطار سياسة "التغيير اللا عنفي"، الذي يمارسه على الوعي الفردي والجمعي، عبر أدوات التظاهرات السلمية ومنظّمات المجتمع المدني والحملات الإعلامية... إلخ.

ومن بينها استخدام مصطلحات محدّدة خلال الحرب الناعمة ضد العرب والفلسطينيين، إلى جانب الحروب العسكرية. وإنّ ما مرّ على فلسطين منذ النكبة إلى يومنا هذا، جاء ضمن مشروع غربي صهيوني منظّم، وقد كانت لحرب المصطلحات حصة من ذلك.

فلسطين بين الصراع والنزاع

علاقة العرب مع الاحتلال الإسرائيلي وخلفه المستعمر الأميركي، لا يمكن أن توصف إلا بأنها حرب أزلية يصعب تحقيق السلام فيها، لذا استغلّ العدو هذه النقطة وعزف على وتر الإدراك اللفظي للحرب، بخط موازٍ مع إدارتها عسكرياً.

في السابق، كان المصطلح الشامل الذي يعبّر عن طبيعة العلاقة بين العرب و"إسرائيل" هو "الصراع العربي ـــ الإسرائيلي"، في ظلّ الإجماع على عدائها آنذاك، وعلى اعتبار أن عدداً من الدول العربية خاض حروباً عديدة مع الاحتلال في محاولة لكبح الهجرات اليهودية وطردها من فلسطين المحتلة.

نجح الاحتلال بالتلاعب في هذا المصطلح، حيث أنّ آخر مرة استُخدِم واتحد خلفه العرب كان في حرب الـ 1967، ومن بعدها تحوّل إلى "النزاع العربي ـــــ الإسرائيلي" بترويج من الإعلام الغربي والعربي، حتى ترسّخ في أذهان الشعب العربي، وتسلّل لمخاطبة نزعات السلام داخله، في خدمة الهدف المرجوّ، أي تحقيق مشروع السلام وإعادة النظر بالاحتلال.

إن الانتقال من مصطلح الصراع إلى النزاع ليس نوعاً من الغنى اللغوي، إنما يحمل في طياته أبعاداً خطيرة، فالصراع يكون بين طرفين على عداء مطلق بمختلف المستويات ولا تجمعهما أيّ علاقات أو مفاوضات مباشرة، مثل لبنان والعدو الإسرائيلي. في المقابل، يرزح مصطلح النزاع بين طرفين يختلفان على ملف معيّن لكن تجمعهما علاقات دبلوماسية طبيعية، على نحو النزاع في إقليم كراباخ.

تنطوي فكرة استخدام النزاع بدلاً من الصراع على طموح الاحتلال بتجريد العرب من قضيتهم الأساس، وإيهامهم بأنّ مشكلتهم مع "إسرائيل" خلاف على أرض اسمها فلسطين، لكن ما في الأمر ليس مجرّد بعد جغرافي، بل هو صراع أيديولوجي يرفض الوجود الإسرائيلي في المنطقة كلّها، ويعتبرها خطراً إرهابياً يهدّد البشرية.

أين العرب من الصراع؟

الأخطر مما سبق، تطوّر مصطلح الحرب مع الاحتلال إلى "الصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي"، وهو ما تزامن مع توقيع الأنظمة العربية اتفاقيات سلام مع "إسرائيل".

يشير هذا المصطلح إلى حصر الصراع بين فلسطين والعدو الإسرائيلي والتخلّي عن جزئية "العربي" من المصطلح، بذريعة الاهتمام بقضايا التحضّر والنمو والتنمية الاقتصادية التي تتطلّب بيئة ملائمة، على حساب القضية الفلسطينية.

لقد تمّ ذلك من خلال خلق خطاب إعلامي يلتفّ حول هذه القضايا والذرائع ويواكبها لتوجيه الرأي العام، وإشغال الأخير في سياق ثقافة الإلهاء، أي تحييده عن البوصلة ونسيان قضيته الوجودية. يشكّل الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي عتبة الوقوف على الحياد حول الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة ضدّ الفلسطينيين والمدن المحتلة والمقدّسات المنتهكة الحرمات، كما يُعتبر مقدّمة لتطبيق مشاريع السلام ومندرجات صفقة القرن.

المصطلح الأساسي في طوفان الأقصى

اتخذت حرب المصطلحات منعطفاً خلال معركة طوفان الأقصى، تجلّى بترويج مصطلح "الحرب بين إسرائيل وحماس"، مما يعني نسف تاريخ من الصراع بين فلسطين، شعباً وأرضاً ومقاومةً، وحصره فقط مع حركة المقاومة الإسلامية حماس.

لا شكّ بأنّ المصطلح بمعناه التعييني يوضح ما يجري، وصحيح أن التشابك العسكري على الأرض هو بين جنود الاحتلال ومقاومي حماس، ولا سيما أنها هي التي أعلنت وتبنّت المعركة، إلا أن العدو تعمّد استخدام هذا المصطلح في إعلامه وخطاباته السياسية، لما يحمل بمعناه التضميني من أبعاد فكرية سنلمس تأثيرها في السنوات المقبلة.

حصر الحرب بين "إسرائيل" وحماس يشير إلى التجزئة في المسمّيات والتي تفضي إلى مخطط تفكيك فلسطين كأمّة ودولة، كما تشير ـــــ وفقاً لما يروّج له الإعلام الغربي ـــــ إلى أنّ جزءاً من الشعب الفلسطيني لا يريد الحرب، وغير مؤيّد لمعركة طوفان الأقصى، وصولاً لمعارضته حماس وتدحرجه نحو وقف دعم المقاومة. هذه التجزئة توضح أن حماس جزء فقط من فلسطين وجزء من المقاومة، فماذا عن الجزء الآخر؟ هل باقي فصائل المقاومة غير معنيّة بالمعركة؟

فرض مصطلحات أخرى

استخدم الاحتلال خلال معركة طوفان الأقصى، مصطلحات عديدة في سياق الحرب الإعلامية، أهمها "الحرب على الإرهاب"، ليسوّق أمام العالم بأنّ حماس منظّمة "إرهابية" وعبر مقارنتها بـ "داعش"، وهو يقوم بجهود دفاعية لمحاربة هذه التنظيمات، الأمر الذي ردّده الرئيس الأميركي جو بايدن ومسؤولون أميركيون.

بعد الإعلان عن المعركة الأخيرة، أطلق رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو تسمية "عملية السيوف الحديدية"، التي اعتبرها رداً على طوفان الأقصى، واضعاً نفسه ـــــ بعبارة "عملية" ـــــ في موقع الدفاع عن النفس والردّ على الهجوم، غير أن الحقيقة هي "عدوان" بكلّ ما للكلمة من معنى، عدوان شامل وإبادة جماعية بحقّ أهالي غزة، لأنه فعل بحد ذاته وليس ردّة فعل، فعل هجومي بعد تاريخ 75 عاماً من الاستيطان والممارسات الوحشية.

يأتي استخدام مصطلحات "العملية البرية" و"الدخول البري" إلى غزة، في محاولة لتبرير خطوات الاحتلال التصعيدية بعدما نكّل في عدوانه الجوي، وتلطيف للأفعال الإجرامية والهمجية التي نفّذها، والحقيقة تكون باعتماد مصطلحات "الغزو البري" و"الاجتياح البري"، انطلاقاً من كونه هجوماً ممنهجاً.

من الخطأ الحديث عن الأسرى "الإسرائيليين على أنهم رهائن، لأنّ كلمة رهائن في الحروب تعني استخدامهم كدروع بشرية وتعريضهم للموت، فيما الحقيقة رآها العالم بأسره كيف تعامل مقاومو حماس مع الأسرى، بل وحرصوا على حمايتهم وإسعافهم من نيران "جيشهم" وحكومتهم، وهنا كانت الصورة أبلغ من ألف كلمة، لذا من الأفضل وصفهم بـ "المحتجزين"، حيث أنهم أداة للتفاوض على صفقة تبادل مع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وهو حقّ يمارس في الحروب كوسيلة ضغط لتحقيق أيّ انتصار، فكيف إذا تعلّق الأمر بالشعب الفلسطيني المضطهد؟

المسؤولية بالمواجهة

بات الشعب بشكل عفوي يستخدم المصطلحات التي فرضها الاحتلال، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، نظراً لمواكبة الوسوم "الترند" وأيضاً ما يطرحه محرّك بحث غوغل، إذ نشر تقريراً عن المواضيع الأكثر بحثاً عام 2023، وتبيّن بالنتائج أن موضوع "الحرب بين إسرائيل وحماس" تصدّر قائمة البحث على غوغل. هنا تقع مسؤولية على الوعي الفردي لمستخدمي مواقع التواصل بعدم الانجرار للفخ وحسن اختيار المصطلحات، تفادياً لخدمة الدعاية الأميركية الصهيونية، التي تصبّ أولاً وآخراً في تجريد الشعب من قضيته، عبر التسويق في حرب المصطلحات بأن الفلسطينيين يريدون الأمن والسلام لا الحرب، والأبعد من ذلك هو السلام مع الاحتلال.

مواجهة الحرب الإعلامية تبدأ بمكافحة سياسة التجزئة من خلال الجمع والتوحيد بالمبادئ والأفكار والمصطلحات، أي ترسيخ فكرة أن الحرب هي بين الشعب الفلسطيني في غزة، وفي الأراضي المحتلة، والمناصرين حول العالم، ضد العدو الإسرائيلي، وبين جميع فصائل وجنود المقاومة ضد "جيش" الاحتلال، على قاعدة أن حماس ليست جزءاً، بل هي المقاومة.

أكثر من ذلك، ينبغي إعادة التركيز على الصراع العربي بشكل مباشر مع "إسرائيل"، أي أنّ الاعتداء على الفلسطينيين هو اعتداء على كلّ الشعوب العربية، وقضم الأراضي هو مساس بملكية أراضي العرب منذ أجدادهم.

في المحصّلة، تندرج جميع هذه المصطلحات ضمن العمل على محو القضية الفلسطينية بأساليب ناعمة، فإنه ليس صراعاً بين حماس و"إسرائيل"، ليس صراعاً بين فلسطين و"إسرائيل"، ليس صراعاً عربياً ـــــ إسرائيلياً، إنما معركة وجودية ترفض المحتلّ في أي وزمان ومكان.