غزة بين عيون الإيرلنديين واستقالة فارادكار
لا يمكن نسيان التظاهرات والاحتجاجات في مدن إيرلندا منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة حتى اليوم، والتي تفردت بعدم توقفها وبوتيرة متصاعدة عن باقي تظاهرات أوروبا.
القضية الفلسطينية في نظر الشعب الإيرلندي لا تختلف كثيراً عن قضيته، فهو الذي قاوم الاحتلال البريطاني وخاض تجربة الانتفاضة وعاش تاريخاً من الصراع من أجل الحق في تقرير مصيره حتى نيل الاستقلال. التهجير، والتشريد، وسلب الأملاك، وعدم قبول الهوية الوطنية، والهجرة القسرية، والتمييز، والجوع... أشكال من المعاناة التي تعرّض لها الشعبان الفلسطيني والإيرلندي، وهو ما دفع الأخير إلى عدم الانكفاء عن التضامن مع غزة.
"تاريخنا في عيونهم"، عبارة لخصت مسار تشابه القضيتين، وقالها رئيس الحكومة الإيرلندية ليو فارادكار من قلب البيت الأبيض. ولعله دفع ثمن ضريبة تضامنه مع فلسطين بإعلان استقالته من رئاسة الحكومة وزعامة حزب فاين غايل قبل أيام.
خلفيات الاستقالة
فارادكار، أصغر رئيس وزراء في تاريخ إيرلندا، أعلن استقالته من منصبه بشكل مفاجئ قبل أسابيع فقط من موعد الانتخابات الأوروبية والمحلية. أتى ذلك بعد عدة هزائم انتخابية، إذ خسر حزب فاين غايل 5 انتخابات فرعية أجريت مؤخراً، من بينها خسارة نتائج استفتاء اقترحته الحكومة في الثامن من مارس/آذار الجاري لتعديل النصوص والإشارات إلى المرأة والأسرة في الدستور الإيرلندي الذي وضع عام 1937، إضافة إلى التوترات حول قضايا معقدة، على رأسها سياسة الهجرة، إذ وقعت أعمال شغب في العاصمة دبلن بسبب أكبر تدفق للمهاجرين شهدته إيرلندا.
هذه العوامل كلها رجحت أن النتائج غير المبشرة للحزب دفعت فارادكار إلى التنحي، الأمر الذي روّجت له وسائل الإعلام الغربية، لكن ليست مصادفة أن تأتي الاستقالة بعد أيام قليلة من خطابه الناري خلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الأميركي جو بايدن أوضح فيه أسباب تضامن بلاده مع غزة، وقارن بين الأحداث في القطاع وماضي إيرلندا المقاوم والمناهض للاحتلال.
كيف أوجع خطاب فارادكار زعماء الغرب وأحرج مقامهم وفضح إجرامهم في دعم الإبادة الجماعية بحق أهالي غزة، وهو الرئيس الوحيد الذي تجرأ أمام بايدن وعاتبه على وقوفه مع "إسرائيل" وإمدادها عسكرياً ومالياً، متقصداً في المعاتبة تذكيره بأصوله الإيرلندية التي ينحدر منها؟
نائب رئيس الوزراء مايكل مارتن قال إن إعلان فارادكار الاستقالة "لم يكن متوقعاً"، لا من حيث الفعل ولا من حيث التوقيت، أي أن عنصر المفاجأة يرمز إلى وجود ضغوط كبيرة وقوّة فرضت عليه الاستقالة بأسرع وقت، وإن افترضنا أنها حقاً نتيجة الهزائم الانتخابية، فإنها كانت لتتم بشكل متدرج ليس مفاجئاً، أي التمهيد للاستقالة قبل إعلانها، على غرار ما يحصل بالشكل الطبيعي لاستقالة الرؤساء، غير أن خطابات فارادكار وتصرفاته الأخيرة لم تلمّح إلى نيته الاستقالة، وهو ما يظهر في رد فعل نائبه.
أوضح فارادكار أن أسباب تنحيه "شخصية وسياسية، لكنها سياسية في الدرجة الأولى"، مضيفاً: "أعلم حتمياً أنه سوف تكون هناك تكهنات بشأن السبب الحقيقي لقراري". يبقى الاعتقاد بأن الدفاع عن فلسطين وراء القرار هو مجرد تكهنات، إلا أن ربط الاستقالة بغزة تكهن واقعي جداً، نظراً إلى موجة الاستقالات في العالم التي أعقبت أحداث طوفان الأقصى على مستوى أممي وأميركي، مثل استقالة رئيسة جامعة هارفرد، ومدير مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومسؤولين في الخارجية الأميركية...
من خلال رصد تجارب السياسيين عند تركهم مناصبهم أو إنهاء حياتهم السياسية، نجد أفكاراً متكررة، كفتح المجال لأشخاص جدد أو إتاحة الفرصة للشباب، وإلقاء اللوم الذاتي بأنهم قدّموا ما باستطاعتهم وانتهت صلاحية خدمتهم. وفي غالبية التجارب، لا تكون الأسباب هذه حقيقية، بل ذرائع. الأمر نفسه قاله فارادكار: "لا أشعر بأنني أفضل شخص لتولي تلك المهمة بعد الآن"، وذلك بعد سبعة أعوام فقط من حكم رئيس الوزراء الشاب.
على مدار 20 سنة من العمل السياسي في الحزب والحكومة، شغل فارادكار عدة مناصب سياسية ورسمية. من هنا، تعتبر القوى الضاغطة التي انزعجت من دعمه غزة هذه المدة ربما مقبولة لختم مسيرته في المنصب السياسي، واستغلتها لإيقافه تحت ذريعة التجديد والتغيير، على الرغم من صغر سنه (45 سنة)، وهي الشماعة نفسها التي تقنع فيها الشعب لتغيير حاكمه في إطار الديمقراطية المزعومة، فهل هناك ديمقراطية أكثر من دعم فلسطين؟ وهل هناك تطبيق للقيم والمساواة أكثر من مساندة شعب مظلوم ومناهضة محتليه؟
تضامن مميز جامع
إن تطور مناهضة "إسرائيل" في إيرلندا ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تاريخي لمحطات من معارضة الجرائم الإسرائيلية التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني. لم تبخل إيرلندا بنصرة الملف الفلسطيني في مختلف المحافل الدولية، وقد تجاوزت في كثير من الأحيان سقف التضامن لدى بعض الدول العربية.
منذ منتصف القرن العشرين حتى اليوم، عارضت احتلال فلسطين، ودانت تهجير شعبها، وحملت على كتفيها قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة، كما أقرّت قانوناً يعدّ المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية "ضماً فعلياً غير قانوني"، وسعت إلى حثّ الدول للاعتراف بدولة فلسطين.
ما يميز التضامن الرسمي في إيرلندا هو اجتماع المعارضة والموالاة على موقف موحّد داعم لغزة، نظراً إلى أحقية قضيتها وصوابية مسارها، فلا جدال في القضية الفلسطينية. وهكذا استطاعت غزة أن تجمع بين الخصوم والمتناقضين. زعيمة المعارضة الإيرلندية ماري لويز ماكدونالد طالبت بطرد سفير الاحتلال الإسرائيلي لدى بلادها، وأيدت مختلف مواقف السلطة في ما يخص العدوان على غزة.
أضف إلى ذلك أن إيرلندا التي دعمت جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي كانت قد بدأت بإجراء محادثات لمراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و"إسرائيل"، على أساس أن الأخيرة انتهكت بند حقوق الإنسان في الاتفاقية، كما كانت السبّاقة إلى المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، ناهيك بمعارضة تسليح الدول الأوروبية لـ"جيش" الاحتلال وإمداده عسكرياً.
إلى جانب التضامن الرسمي والحكومي مع غزة، طبع الشعب الإيرلندي على مستوى شخصي وجماعي بصمته خلال معركة طوفان الأقصى. وقد لمعت أسماء في مناصرتها فلسطين بحدية واستمرار، أمثال ريتشارد بويد باريت وكلير دالي التي وصفت بايدن بـ"الجزار"، فضلاً عن توصيف الممثل الإيرلندي تيد هيكي، الذي هزّ وسائل التواصل الاجتماعي، بقوله: "أجداد بايدن إيرلنديون فرّوا من المجاعة، وهو يدعم مجاعة غزة!".
مجموعة من أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ الإيرلنديين دعت في رسالة خطية لحظر "إسرائيل" من المنافسة الأوروبية والدولية لكرة القدم، وإن لم يُؤخذ بالرسالة، فإن شابات منتتخب إيرلندا لكرة القدم تحت 17 عاماً حملن على عاتقهن التعبير عن هذا الموقف، وأدرن ظهورهن للاعبات منتخب الاحتلال، في مشهد تكرر نفسه مع لاعبات منتخب كرة السلة اللواتي رفضن مصافحة لاعبات الاحتلال واعتكفن عن المشاركة بفعاليات ما قبل المباراة.
ولا يمكن نسيان التظاهرات والاحتجاجات في مدن إيرلندا منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة حتى اليوم، والتي تفردت بعدم توقفها وبوتيرة متصاعدة عن باقي تظاهرات أوروبا، إذ جابت المسيرات شوارع وطرقات البلاد التي تم تزيينها بلوحات ورسوم تجسد صمود أهالي غزة ورفع العلم الفلسطيني في العاصمة دبلن.
إن غطرسة الغرب الاستعماري وكبره تجعله يصدّ أي محاولة لكشف حقيقة طغيانه وجرائمه مع الاحتلال في غزة، حتى لو نجح بممارسة الضغوط على الكيانات الحكومية، إلا أنه لن يستطيع إسكات صوت التظاهرات الشعبية المستمرة في العالم، على غرار صوت الشعب الإيرلندي.