عالم روسيا الجديد: وثيقة السياسة الخارجية الروسية
استحوذ المفهوم الإستراتيجي الجديد للسياسة الخارجية الروسية على الكثير النقاشات والحوارات الداخلية في دوائر اتخاذ القرار في موسكو.
شكّل وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحكم إيذاناً بانتهاء الفترة الانتقالية المؤلمة والقاسية التي عاشتها روسيا الاتحادية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، إذ استطاع الرئيس بوتين إعادة البريق إلى الحضور الروسي على الصعيدين الإقليمي والدولي، والذي شهد تزايداً ملحوظاً على مدى السنوات القليلة الماضية، فقد أصبحت روسيا تؤدي دوراً فاعلاً وتتخذ مواقف واضحة في العديد من القضايا الإقليمية والدولية، وانتهجت سلوكاً تدخلياً في إقليمها القريب وخارجه.
باكورة التحولات الروسية إيذاناً بعودتها إلى الساحتين الإقليمية والدولية أمكن تلمسها بوضوح في خطاب بوتين أمام مؤتمر الأمن في ميونيخ في شباط/فبراير 2007، الذي كان يمكن اعتباره بمنزلة انتقال روسيا الاتحادية من موقع المتفرج إلى موقع المؤثر والفاعل في السياسية الدولية.
وبدا واضحاً حينها أنّ موسكو خرجت من تلك الدوامة التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين، حيث القطب الأوحد على رأس النظام الدولي الذي يقوض كل شراكة محتملة لها في إدارة النظام الدولي، وتوسع حلف الأطلسي شرقاً باتجاه الحدود الروسية، وإدخال مجالها الحيوي في دائرة الثورات الملونة التي بدا واضحاً أنها تستهدف عزل روسيا وتطويقها بغية مشاغلتها وإنهاكها وإضعافها ومنعها من أداء دور فاعل في العلاقات الدولية، والذهاب نحو تفكيكها خدمة للهيمنة والأحادية الأميركية، وما يجري اليوم في أوكرانيا خير شاهد على كل ذلك.
المفهوم الإستراتيجي الجديد للسياسة الخارجية الروسية
استحوذ المفهوم الإستراتيجي الجديد للسياسة الخارجية الروسية على الكثير النقاشات والحوارات الداخلية في دوائر اتخاذ القرار في موسكو، والتي استمرت أكثر من عام، في ظل تصاعد التهديدات الخارجية واحتدام المواجهة مع القوى الغربية في الساحة الأوكرانية والعقوبات غير المسبوقة التي فرضت على روسيا، فضلاً عن حالة العداء التي يجري تعميمها ضدها في ما بات يعرف بـ"الروسوفوبيا".
وقد أعلن الرئيس الروسي في الاجتماع الأخير مع الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن القومي الروسي أن الاضطرابات والتحولات الجذرية في الحياة الدولية تستوجب إجراء تعديلات نوعية في مسارات السياسة الخارجية الروسية بما يتلاءم مع التحديات التي تواجه روسيا وطريقة مقاربتها القضايا الحيوية والساخنة وعلاقاتها الإقليمية والدولية.
وأكد بوتين أن المفهوم الجديد للسياسة الخارجية "بمنزلة أساس عقائدي سليم للعمل لاحقاً في مجال الشؤون الدولية"، وطلب من القائمين على السياسة الروسية، الذين هم على صلة بتنفيذ سياسة خارجية موحدة، "إيلاء اهتمام خاص لتوسيع العلاقات مع الشركاء ذوي التفكير البنّاء وتهيئة الظروف للدول غير الصديقة للتخلي عن سياستها العدائية تجاه روسيا".
في 31 آذار/مارس 2023، صدّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الوثيقة الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية التي تشكل في مضامينها معالم خارطة الطريق لروسيا في علاقاتها الخارجية للسنوات المقبلة، بغية تعزيز سيادة روسيا ورفع مستوى مساهماتها في تشكيل نظام عالمي أكثر عدلاً.
ترى الوثيقة أن الولايات المتحدة الأميركية هي "المحرك الرئيسي والمصدر الأساسي للسياسة المعادية لروسيا، وأكبر تهديد يواجه العالم وتطور البشرية"، وتشير إلى أن "روسيا ستستخدم الجيش لصد ومنع أي هجوم مسلح ضدها أو ضد أي من حلفائها، وستتعامل مع الدول الأخرى بالمثل".
ما الذي تضمنته الوثيقة الجديدة؟
العالم الروسي
نصت الوثيقة التي نشرت في البوابة الرسمية للحكومة الروسية على "أن روسيا هي معقل العالم الروسي ومهد إحدى الحضارات الأصيلة التي تحافظ على التوازن العالمي، وأن مكافحة "الروسوفوبيا" (العداء للروس) في مختلف المجالات من أولويات السياسة الإنسانية لروسيا في الخارج".
واشنطن التهديد الرئيسي
واللافت أن الوثيقة أشارت بوضوح إلى "أن روسيا تعتبر المسار الأميركي المصدر الرئيسي للسياسة المعادية لروسيا والمخاطر على أمنها، والسلام الدولي القائم على التوازن والتنمية العادلة للبشرية".
في الوقت نفسه، أقر المفهوم الجديد بأن "روسيا لا تعتبر نفسها عدواً للغرب، ولا تعزل نفسها عنه، وليس لديها نيات عدائية تجاهه، وتعوّل على إدراك الغرب عدم جدوى المواجهة معها، وقبول حقيقة تعددية الأقطاب، والعودة بمرور الوقت إلى التفاعل على أساس مبادئ المساواة في السيادة واحترام المصالح والقضاء على "أساسات الهيمنة" من جانب الولايات المتحدة والدول الأخرى غير الصديقة في الشؤون الدولية، واعتباره إحدى أولويات روسيا، إلى جانب اعتبار أن تكريس روسيا توجهاتها نحو تشكيل نظام عالمي يوفر أمناً موثوقاً به، ويضمن تكافؤ الفرص بالنسبة إلى الجميع، مع التأكيد أن مساعي روسيا نحو تحقيق الأمن المتساوي لجميع الدول ستنطلق من مبدأ المعاملة بالمثل".
وتتمسك روسيا بأولوية العمل من أجل تصفية الهيمنة الأميركية ومخلفاتها في العالم، وذلك ما توقف عنده وزير الخارجية سيرغي لافروف في سياق حديثه عن الوثيقة بشكل خاص، بإشارته إلى أن الولايات المتحدة هي "المبادر والمحرض الرئيس على انتهاج الخط المناهض لروسيا"، فضلاً عما قاله عن "أن الغرب بوجه عام ينتهج سياسة تهدف إلى إضعاف روسيا من جميع النواحي، مما يمكن اعتباره حرباً هجينة من نوع جديد".
العلاقات الروسية الصينية الهندية
وشددت الوثيقة بشكل كبير على تطوير علاقات روسيا مع الصين والهند، فرأت "أن من المهم للغاية بالنسبة إلى روسيا التعميق الشامل للعلاقات والتنسيق مع مراكز القوى العالمية الصديقة، وهي الصين والهند" اللتان شغلتا مكانة خاصة في سياق الوثيقة الجديدة لإستراتيجية السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية".
وفي هذا السياق أيضاً، ترى الوثيقة أن المشروع الرائد بالنسبة إلى روسيا في القرن الحادي والعشرين هو تحويل أوراسيا إلى مساحة متكاملة يعمها السلام والاستقرار والازدهار.
نظام عالمي متعدد الأقطاب
أقرّت وثيقة إستراتيجية السياسة الخارجية الروسية بعزم روسيا على إعطاء الأولوية للقضاء على بقايا هيمنة الولايات المتحدة وغيرها من الدول غير الصديقة على الشؤون العالمية "من أجل المساعدة على تكييف النظام العالمي مع حقائق عالم متعدد الأقطاب، وتعتزم روسيا إعطاء الأولوية للقضاء على بقايا هيمنة الولايات المتحدة وغيرها من الدول غير الصديقة على الشؤون العالمية، وتهيئة الظروف لأي دولة للتخلي عن طموحات الاستعمار الجديد والهيمنة".
ولفتت الوثيقة إلى أن موسكو تتطلع إلى توفير الأمن لجميع البلدان على أساس المعاملة بالمثل، مؤكدة أن "روسيا ستسعى إلى ضمان الأمن لجميع الدول على قدم المساواة على أساس مبدأ المعاملة بالمثل".
العلاقات الروسية الأوروبية
تناولت الوثيقة الجديدة العلاقات الروسية الأوروبية تحت عنوان "المنطقة الأوروبية"، وليس "القارة الأوروبية"، معتبرة أن "البلدان الأوروبية تنتهج في معظمها سياسة عدوانية تجاه روسيا تهدف إلى خلق تهديدات لأمن الاتحاد الروسي وسيادته، والحصول على مزايا اقتصادية أحادية الجانب، وتقويض الاستقرار السياسي المحلي والقيم الروحية والأخلاقية التقليدية الروسية، وخلق عقبات أمام تعاون روسيا مع الحلفاء والشركاء".
وأشارت إلى "أن المسار الإستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها هو العامل الرئيس الذي يعقد تطبيع العلاقات بين روسيا والدول الأوروبية"، فضلاً عن تعميقه خطوط الانقسام في المنطقة الأوروبية من أجل إضعاف القدرة التنافسية لاقتصادات روسيا وأوروبا وتقويضها والحد من سيادة الدول الأوروبية وتكريس الهيمنة الأميركية العالمية.
أهمية المنطقة الأوروآسيوية ودعم عمليات التكامل الإقليمي
وقد أفردت الوثيقة حيزاً مهماً للحديث عن تحويل المنطقة الأوروآسيوية إلى ساحة متكاملة يسودها السلام والاستقرار والرخاء، وهو المشروع الرائد بالنسبة إلى روسيا في القرن الـ21. وجاء في نص الوثيقة: "مع الأخذ بالاعتبار الإمكانات المتنامية بشكل ديناميكي والمتعددة الأوجه لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، تعتزم روسيا الاتحادية توجيه أولوية الاهتمام لمواجهة محاولات تقويض النظام الإقليمي للاتحادات متعددة الأطراف التي تم إنشاؤها حول الآسيان في مجال الأمن والتنمية، بناء على مبادئ الإجماع والمساواة بين المشاركين فيها".
وتعتزم روسيا الاهتمام بدعم عمليات التكامل في إطار الاتحادات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وفي هذا الصدد، تقول الوثيقة: "من أجل تكييف النظام العالمي مع واقع العالم متعدد الأقطاب، تعتزم روسيا الاتحادية توجيه أولوية الاهتمام لدعم التكامل الإقليمي ودون الإقليمي في إطار المؤسسات الصديقة متعددة الأطراف ومنصات الحوار والاتحادات الإقليمية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأميركا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط".
روسيا والعالم الإسلامي
وأولت الوثيقة أهمية كبيرة لعزم روسيا الاتحادية على تطوير الشراكة مع العالم الإسلامي ومكافحة كراهية الإسلام، ونصت على التالي: "تعتزم روسيا الاتحادية توجيه أولوية اهتمامها إلى تطوير التعاون الشامل والقائم على الثقة مع جمهورية إيران الإسلامية، والدعم الشامل للجمهورية العربية السورية، فضلاً عن تعميق شراكة متعددة الجوانب وذات منفعة متبادلة مع جمهورية تركيا والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية وغيرها من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، مع مراعاة درجة سيادتها ومواقفها البناءة في سياستها تجاه روسيا الاتحادية".
ويؤكد المفهوم الجديد تزايد الحاجة إلى شركاء موثوقين لضمان الأمن والاستقرار وحل المشكلات الاقتصادية على المستويين العالمي والإقليمي، وهذه الدول هي دول الحضارة الإسلامية الصديقة. هذه الدول في ظل عالم متعدد الأقطاب ستجد أمامها آفاقاً واسعة لتصبح مركزاً مستقلاً للتنمية العالمية.
وفي هذا الصدد، تسعى روسيا الاتحادية لتعزيز التعاون الشامل متبادل المنفعة مع دول منظمة التعاون الإسلامي على أساس احترام بناها الاجتماعية والسياسية والقيم الروحية والأخلاقية التقليدية التي تؤمن بها.
وتنص الوثيقة على أن موسكو ستولي اهتماماً لتشكيل بنية شاملة مستدامة للأمن والتعاون الإقليميين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على أساس توحيد إمكانات جميع الدول والاتحادات القائمة بين دول المنطقة، بما في ذلك جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية.
وجاء في النص: "يعتزم الجانب الروسي التعاون بنشاط مع جميع الأطراف المعنية من أجل تنفيذ مقترحات روسيا الاتحادية لضمان الأمن الجماعي في منطقة الخليج العربي. وترى موسكو أن تنفيذ هذه المبادرة هو خطوة مهمة نحو تطبيع مستدام وشامل للوضع في منطقة الشرق الأوسط".
وستعمل روسيا الاتحادية لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات، فضلاً عن الإسهام في توطيد الجهود الرامية إلى حماية القيم التقليدية ومكافحة كراهية الإسلام، وستهتم موسكو بتخفيف التناقضات بين دول منظمة التعاون الإسلامي وجيرانها، وكذلك المساهمة في تسوية النزاعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوبها وجنوب شرق آسيا.
إضافة إلى ذلك، ترى روسيا الاتحادية الحاجة إلى استخدام الإمكانات الاقتصادية لبلدان المنطقة "من أجل تشكيل شراكة أوروبية آسيوية كبيرة." وتطرقت الوثيقة إلى توجه روسيا نحو تطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية، والسعي لمساعدتها في عمليات التنمية والنهوض الاقتصادي، وزيادة الاستثمار فيها.
المنطقة القطبية
احتلت المنطقة القطبية حيزاً مهماً من صفحات الوثيقة، باعتبارها جزءاً حيوياً لا يتجزأ من روسيا الاتحادية، لما لها من أهمية اقتصادية وإستراتيجية في مواجهة "سياسات البلدان غير الصديقة الرامية إلى عسكرة المنطقة والحد من قدرات روسيا تجاه تجسيد حقوقها السيادية في المنطقة القطبية من أراضيها".
وأشارت الوثيقة إلى أن موسكو لديها المبررات اللازمة لاستخدام القوة المسلحة لصد الهجوم على نفسها وعلى حلفائها" ومنعه من منظور "إمكانية ردود الفعل المتكافئة وغير المتكافئة على الأعمال العدائية"، رداً على الإجراءات غير الودية ضد روسيا، وعلى أن مبدأ الارتباط الأمني متاح استناداً إلى الندية، في ظل ظروف التهديدات الخارجية.
وتؤكد الوثيقة أن روسيا ستولي أيضاً اهتماماً خاصاً للتحسين التدريجي والمستدام للنظام القانوني الدولي، وستقوم بالتحقيق في التطوير المفترض للأسلحة البيولوجية والسمية، والعمل على تحييد محاولات فرض المبادئ الأيديولوجية الإنسانية الزائفة والنيوليبرالية التي تؤدي إلى فقدان الروحانية التقليدية والمبادئ الأخلاقية.
وبناء عليه، يمكن القول إن مقاربة روسيا الجديدة لعلاقاتها الدولية وسياستها الخارجية تؤشر إلى مشهد مختلف لدورها إقليمياً ودولياً، باعتبارها تظهر القناعات والتصورات الدولية عن القوة والدور الروسي.
وقد كشفت الحرب الأطلسية الروسية في أوكرانيا حجم المخاطر التي تتعرض لها موسكو، والتي يأتي في طليعتها المعسكر الذي عملت واشنطن على حشده لمحاصرة روسيا وعزلها عن مناطق النفوذ الجيوستراتيجية، إضافة إلى العقوبات غير المسبوقة التي فرضت عليها لإخضاعها وتفكيكها، ما يستدعي منها، بالتعاون مع بعض القوى الدولية، العمل الجاد والصارم لإعادة صياغة النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، كما على مؤسساته.
لذا، ترى موسكو أن أفضل طريقة للتعامل مع ذلك تقوم على ما يمكن تسميته "إستراتيجية الهدم البناء"، بمعنى أن النخبة الحاكمة في روسيا ترى أنه يتوجب هدم العلاقات مع الغرب التي نشأت في ظل موازين قوى غير متكافئة أبداً، والانعطاف نحو بناء شراكة إستراتيجية مع الصين وقوى أخرى صاعدة، ومن ثم التفاوض مع الغرب، وفي طليعته واشنطن، لبناء العلاقات الدولية على قاعدة الندية والمساواة وتكافؤ الفرص.