طوفان التاريخ
تدمير غزة وارتقاء 7500 شهيد حتى الآن لا يجرّد المقاومة من استمراريتها، ولا ينهيها. فدول كثيرة دفعت ثمن استقلالها الملايين من مواطنيها، وهي ليست بعيدة عنا.
يعتبر الاحتلال الإسرائيلي حالة استعمارية فريدة من نوعها لشكل الاستعمار. وبالرغم من جرائم الاستعمار المعروفة، لكنه لم يسبق لأيّ دولة جرى استعمارها أن واجهت سلوكاً وإجراماً مماثلاً لما جرى في استعمار فلسطين وشعبها من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
إنّ مأساة فلسطين لم تبدأ منذ سنة 1948 مع قيام "دولة إسرائيل"، وإنما بدأت منذ وعد بلفور، ثم إعلان عصبة الأمم سنة 1921 مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين، واستمرار الهجرة اليهودية إليها. ومنذ ذلك التاريخ، جرت عدة ثورات وانتفاضات بدأت الأولى منها عام 1921 بقيام ثورة يافا ضدّ الهجرة اليهودية، ثم انتفاضة البراق عام 1928 كأول انتفاضة فلسطينية على محاولة تهويد القدس في عهد الانتداب البريطاني، ثم ثورة عام 1936 لوقف الهجرة اليهودية ومنع بيع الأراضي، وأخيراً قرار التقسيم وإعلان "دولة إسرائيل" سنة 1948.
إلا أن الصفة الرسمية لحركات المقاومة ظهرت بشكل رسمي مع قيام حركة فتح التي استقطبت العديد من المجموعات التنظيمية الثورية، وذلك عندما بدأت استعداداتها لقيام الثورة المسلحة بإطلاق أول رصاصة لها عام 1965 داخل الأراضي المحتلة. واستمرت هذه الحركة في تطوير نشاطها حتى استطاعت في معركة الكرامة عام 1968 هزيمة قوات الاحتلال الإسرائيلي ومنعها من احتلال نهر الأردن. وفي مرحلة نشأت انتفاضات شعبية عارمة جديدة كانتفاضة الحجارة عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000.
صراع تاريخي طويل وشاق، اشتد سنة 1948 مع قرار التقسيم الأممي بإنشاء دولتين على أرض فلسطين. "دولة" يهودية وأخرى فلسطينية، فتكوّنت الأولى وتوسّعت، بينما الثانية لم ترَ النور إلى يومنا هذا.
كان الاحتلال الإسرائيلي يبدع في كل مرة بزيادة نهجه الاستيطاني المتطرف والعنصري تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته. حتى بلغ أقصى درجاته من خلال حكومته الأخيرة التي شدّدت من حصارها الخانق على الشعب الفلسطيني وأسرت معظم سكانه في أكبر سجن في العالم وهو قطاع غزة، وقامت بممارسة سياسة التجويع والتنكيل والاعتقالات والاغتيالات، مع الاستمرار بتوسيع الاستيطان وقضم الأراضي والاستيلاء على المنازل من دون أي رادع، كما تمكّنت من قلب مفهوم الأرض مقابل السلام إلى مفهوم السلام مقابل السلام، معلنة في أكثر من مناسبة عدم قيام دولتين، فأغلقت جميع الأبواب أمام فرص الحل، بما فيها تنفيذ اتفاقية أوسلو التي مضى على توقيعها 30 سنة.
تنازلات كثيرة قدّمت لـ "دولة" الاحتلال لم تكن لتحلم بها، بعضها من قبل الداخل الفلسطيني كما في اتفاقية أوسلو، وبعضها من قبل قيادات في الدول العربية حين اعترفت بـ "إسرائيل كدولة" وأقامت معها علاقات دبلوماسية. وبعضها الآخر دولي دعمت بشكل مطلق سياسة "إسرائيل" الاستيطانية وتسترّت عن جرائمها في أكثر من مناسبة، بحيث كانت تحجب الوثائق والتقارير التي تؤكد قيام "إسرائيل" بانتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم حرب وإبادة.
ومن ذلك التقارير التي قدّمتها منظمة العفو الدولية وحقوق الإنسان والأمم المتحدة ومجلس حقوق الانسان التي أشارت دائماً إلى التطهير العرقي والإبادة، والاستمرار في التوسّع وضمّ الأراضي والاعتقال التعسّفي والاغتيالات التي طالت حتى الصحافيين، وصولاً إلى حرب الإبادة التي تشنّها اليوم على سكان غزة المدنيين وتهجيرهم.
وبالرغم من أن اتفاقية أوسلو ألزمت الجانب الفلسطيني الاعتراف بـ "إسرائيل كدولة"، إلا أن الأخيرة رفضت جميع القرارات الدولية المتعلقة بقيام الدولة الفلسطينية وتنفيذ الاتفاقيات التي عقدتها مع الفلسطينيين، ولم تقدّم لهم في المقابل سوى زيادة في عدد تصاريح العمل والبناء وبعض المساعدات المالية أو الإفراج عن بعض الأموال المجمّدة.
هذا الأمر الذي دفع بالمقاومة إلى التيقن بأن الانتظار والتنازلات والتهدئة لن تجلب سوى المزيد من هدر الحقوق وقضم الأراضي، وزيادة الاستيطان والتهجير والإزلال. فحدث طوفان الأقصى بشكل مذهل وفريد لإجبار الاحتلال على تغيير سلوكه وممارساته الإجرامية تجاه الشعب الفلسطيني المحتل حتى يدرك ويعي تكلفة احتلاله.
خلال ساعات معدودة تمكّن مئات المقاتلين من حركة حماس من إمطار "دولة" الاحتلال بآلاف الصواريخ، كما تمكّنوا من دخول غلاف غزة والسيطرة على المدن فيها، وأسر عدد كبير من العسكريين والمستوطنين في المنطقة. وهو ما مكّنها من قلب كل الموازين في الداخل والخارج، وإفشال كلّ ما بنته الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" على مدى ثلاثة عقود من مشاريع تهدف إلى نسيان حقوق الشعب الفلسطيني وطرده من أراضيه بالعنف والإبادة لإفراغ الأرض وفرض الأمر الواقع.
وبالرغم من استخدام "دولة" الاحتلال في ردها لأحدث أنواع الأسلحة والقذائف بآلاف الأطنان لمسح قطاع غزة عن وجه الأرض، وتهجير سكانها، واستخدامها الأسلحة المحرّمة دولياً أمام أنظار العالم، قامت الولايات المتحدة بتزويدها بالسلاح المتطور، وإرسال حاملة الطائرات إلى المنطقة، في تهديد مباشر لكل أطراف النزاع في المنطقة. وذلك في إشارة واضحة بحماية "إسرائيل" في حال امتدت الحرب إلى جبهة الجنوب من جهة لبنان، وبالتالي تسهيل اجتياح "إسرائيل" لقطاع غزة وتدميره وتهجير سكانه.
كما قامت بحشد سياسة التأييد لهذه الجرائم من قبل حلفائها، وبثّ كل أشكال الدعم الإعلامي لزيادة التعاطف مع "إسرائيل". وعلى سبيل المثال بمجرد وصول الرئيس الأميركي بايدن إلى "إسرائيل"، برّأ الأخيرة من جريمة مشفى المعمداني حتى قبل إجراء التحقيقات اللازمة لكشف مرتكبيها، قائلاً: بأنه يرى الطرف الثاني هو المتورّط فيها.
ويزيد بايدن في ذلك بأن حركة حماس قتلت أكثر من 1300 شخص بينهم أميركيون، وبأنها حركة إرهابية، متناسياً قيام "إسرائيل" بأسر سكان القطاع لأكثر من 17 سنة وبإبادة وترحيل أكثر من مليون مواطن فيها ضمن أكبر عملية تهجير في تاريخ البشرية دفعة واحدة، ومتناسياً أيضاً وجود أكثر من مليوني مواطن يفتقدون المياه والطعام والدواء وغيره.
قد تتطوّر مجريات الحرب في المنطقة، إلا أن توسيع نطاق الحرب ستترتّب عليه تداعيات كثيرة وكبيرة، فحزب الله وفصائل أخرى من المقاومة قد لا تجد سبيلاً سوى التدخّل لدعم المقاومة الفلسطينية في حال اجتياح قطاع غزة، أو في حال قيام الاحتلال الإسرائيلي بضربة عسكرية في جنوب لبنان، وعندها قد تتسع نطاق الحرب لتصبح إقليمية وربما دولية؟
ومع ذلك استطاعت المواقف السياسية لبعض الدول الفاعلة في المنطقة أن تقيّد رؤية الولايات المتحدة الأميركية، بل وتربكها بعد هرولتها إلى "إسرائيل" وتهديدها للدول الإقليمية في المنطقة.
لقد كان موقف المملكة العربية السعودية واضحاً لا لبث فيه: حيث دعت إلى الوقف الفوري للتصعيد، ووقف الهجوم على قطاع غزة، ورفض استهداف المدنيين وإزهاق أرواح الأبرياء بأي شكل، وتأكيد ضرورة مراعاة مبادئ القانون الدولي الإنساني، ومنع اتساع النزاع بين "إسرائيل" وغزة، والاستمرار في والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه المشروعة في حياة كريمة، وتحقيق آماله وطموحاته، وتحقيق السلام العادل والدائم، وحلّ القضية الفلسطينية.
أما بالنسبة للموقف الإيراني فقد حذّرت إيران من "عواقب واسعة النطاق" إذا لم توقف "إسرائيل" هجماتها على قطاع غزة، الأمر الذي قد يخرج الوضع عن نطاق السيطرة، ويؤدي إلى عواقب واسعة النطاق. وأشارت إلى أنه إذا استمرت جرائم النظام الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، فلا يمكن لأحد أن يضمن بقاء الوضع في المنطقة على ما هو عليه، وبأن المنطقة تحوّلت إلى مخزن بارود وكل أطراف المنطقة أيديها على الزناد.
أما حزب الله فقد دخل على خط الحرب الدائرة بين حركة حماس و"إسرائيل" في قطاع غزة والغلاف المحيط به، بعدما قصف منطقة مزارع شبعا. وقد سبق أن أعلن حزب الله عن تأييده لعملية حماس، كما أرسل عدة رسائل تضمّنت أن أي تصعيد كبير في غزة قد يعني فتح الجبهة مع لبنان. وقد شهد جنوب لبنان تصعيداً عسكرياً مع قيام جيش الاحتلال بحشد قواته وآلياته على الجبهة الشمالية. كما شهدت الأحداث إطلاق صواريخ من جبهة الجولان السوري المحتل.
أما عن الموقف الرسمي المصري فقد كثّفت مصر من اتصالاتها لاحتواء الموقف في غزة وعدم دخول أطراف أخرى إلى الصراع، وطالبت بإيقاف تطورات الأزمة الحالية التي من الممكن أن تكون لها تداعيات على منطقة الشرق الأوسط. وقد رفضت مصر فتح معبر رفح محذرة من محاولة تصفية القضية الفلسطينية عبر نقل سكان قطاع غزة إلى سيناء. كي لا تتكرّر مسألة اللاجئين الفلسطينيين من جديد، رافضة سياسة التهجير ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية. كما رفضت فتح المعبر بالنسبة للأجانب ما لم تتم الموافقة على السماح بدخول المساعدات الإنسانية لسكان غزة.
ما جرى في غزة أمر غير مسبوق في التاريخ العسكري، فقد تمّ استهداف سكان غزة المدنيين "المنطقة الأكثر كثافة سكانية في العالم" بآلاف الصواريخ والقنابل الإسرائيلية، وفرضت على أكثر من 2.4 مليون مواطن فلسطيني حصاراً خانقاً فتم حرمانهم من الماء والكهرباء والعلاج، كما قاموا بتهجير ما يقارب من مليون مواطن منهم خلافاً لكل القوانين الدولية، بما فيها اتفاقية جنيف الرابعة.
إن تدمير غزة وارتقاء 7500 شهيد حتى الآن لا يجرّد المقاومة من استمراريتها، ولا ينهيها. فدول كثيرة دفعت ثمن استقلالها الملايين من مواطنيها، وهي ليست بعيدة عنا، كما في الجزائر وفيتنام وجنوب أفريقيا حتى أفغانستان وغيرها، إلى أن خرج المحتل مهزوماً ذليلاً.
الحرب في غزة لم تنتهِ حتى الآن ولم تحسم نتائجها، فقيام "إسرائيل" بعملية برية تجاه قطاع غزة سيكون عملاً خطيراً وصعباً، وستتكبّد خسائر هائلة. والمقاومة التي حققت نتائج مبهرة في طوفانها الأخير، ستكون لديها عناصر مفاجئة جديدة في حساباتها.
لقد علّمنا التاريخ بأن المقاومة هي حالة وطنية مستمرة باقية طالما بقي الظلم والاحتلال، وبأنها المنتصرة في النهاية.