سوريا ومحور المقاومة.. طريق معبّد بالتّضحيات

صمدت سوريا طوال تلك السنوات العجاف قيادةً وجيشاً وشعباً، فترجم صبرها وصمودها إلى انتصار تاريخيّ، كان لخيارات دمشق الاستراتيجية وقراراتها بصمة أساسية في صناعته.

  • صمدت سوريا طوال تلك السنوات العجاف قيادةً وجيشاً وشعباً،
    صمدت سوريا طوال تلك السنوات العجاف قيادةً وجيشاً وشعباً،

قبل عقد من الزمن، قدّر لسوريا أن ترزح تحت وطأة حرب دمّرت البلاد وأرهقت العباد؛ حرب رُسمت ملامحها في غياهب غرف السياسة الغربية والعربية، فكان الرهان الأساسي على تفتيت الدولة السورية وإسقاط رئيسها وجرفها عن الطريق الَّذي رسمته لنفسها طوال سنوات خلت كركيزة أساسية ضمن المحور الممتدّ من طهران إلى بيروت، والمارّ حتماً بفلسطين.

 لم تبقَ وسيلة تحشيد وتضليل منذ بداية الأحداث إلا واستخدمت لذلك، بدءاً بالفتاوى الدينية والجهادية، مروراً بتسليح الجماعات المتطرفة من كلِّ حدب وصوب وتمويلها، وصولاً إلى معارك طاحنةٍ على امتداد رقعة الميدان السوري.

صمدت سوريا طوال تلك السنوات العجاف قيادةً وجيشاً وشعباً، فترجم صبرها وصمودها إلى انتصار تاريخيّ، كان لخيارات دمشق الاستراتيجية وقراراتها بصمة أساسية في صناعته، فأيّ خيارات تلك التي حمت قلب الشرق؟

جاء اجتياح بغداد في سياق مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي رفع المخاطر والتهديدات إلى مستوى شديد السخونة على دول المنطقة، وهو ما ظهر حرفياً من خلال الرغبة الأميركية الجامحة في معاقبة دمشق ومحاصرتها اقتصادياً وسياسياً، بعد رفضها الإذعان لعرض وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول: "خذوا ما شئتم منّا. خذوا لبنان والمال والاستثمارات، مقابل التخلّي عن دعم حركات المقاومة وإعلان ترحيبكم الصريح بالسلام مع إسرائيل والتطبيع معها".

حينها، كان جواب الرئيس الأسد واضحاً لا لبس فيه: "سوريا كانت وستبقى وطناً حتميّاً لكل حركات المقاومة بوجه الكيان الغاصب، وستظل ماضية في موقفها القاضي بوضع كلّ إمكانياتها بتصرّفهم، مهما كانت العواقب والتضحيات".

سريعاً، ترجمت هذه العواقب التي ظهرت جلية وواضحة بُعيد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، فسيقت أصابع الاتهام نحو سوريا، لدفعها إلى الخروج من لبنان، وبالتالي محاصرتها بالنيران من الغرب اللبناني والشرق العراقي. وعلى الرغم من كل ذلك، لم تتراجع القيادة السورية عن مواقفها، وثبتت على خياراتها الاستراتيجية. 

لقد خرجت من لبنان، وأعادت ذلك إلى الاتفاقيّات المشتركة الموقعة سابقاً، وواصلت في الوقت نفسه دعم المقاومة اللبنانية التي حفظت لدمشق دورها التاريخي في حماية لبنان من التفكك ومساعدته على التحرر من الاحتلال الإسرائيلي.

لكن دوي انتصار العام 2000 في هذا البلد وصدى الرفض السوري لعرض باول، كانا فوق قدرة الأميركيين وحليفتهم "إسرائيل" على الاحتمال، فجاؤوا بكامل غضبهم في العام 2006 ليكسروا رأس حربة المشروع الاستراتيجي للمحور العصي على الخضوع للإملاءات، والذي تشكّل سوريا قبضة حربته.

في تلك المحطة المفصلية في مسار الصراع مع الكيان، لم تبخل دمشق كعادتها في الدعم، فوضعت قدراتها الاقتصادية والدبلوماسية واللوجستية في خدمة المعركة ضد العدو الإسرائيلي، حتى أضحت جزءاً حقيقياً أصيلاً من الانتصار الذي غيّر معادلة الردع في وجه الكيان الإسرائيلي، ومنعه من شنّ حربٍ واسعة على لبنان منذ 15 عاماً حتى اليوم.

كلّ ذلك الدعم وما سبقه من مواقف جعل دمشق هدفاً للمحور المعادي الذي رأى في إسقاطها قدرة وإمكانية على إحداث شلل في محور الممانعة، فما لبث العام 2011 أن انقضى، حتى كان قطار الثوارات الملوّنة قد حطَّ رحاله في قلب الشرق وفي مفترق طرق المحاور، معلناً بداية حقبة من تاريخ سوريا ودخولها في نفق شديد الظلمة لم تشهده من قبل.

أُريد لهذه العاصمة أن ترسم طريقاً جديداً لنظام دولي جديد تجد فيه كلّ قوةٍ كبرى مبتغاها تحضيراً لما هو قادم. في الداخل، لاقت رياح الطموحات الغربية فتحات في نوافذ عاصمة الأمويين. تلك النوافذ كانت قد تعرضت لموجاتٍ متكررة من الرياح، لم يكن آخرها الهجمة التي واجهتها بعد احتلال أميركا لبغداد. 

اشتغلت الماكينات الإعلامية ضمن غرف التخطيط الاستراتيجي، ووضع رأس النظام السوري على رأس قائمة الأهداف. كان العالم يترقب لحظة سقوط النظام بين ليلة وضحاها، فحشدت كلّ الإمكانيات السياسية والمخابراتية والإعلامية والعسكرية، وجرى تمويل شُذّاذ الآفاق وتسليحهم، ليَعيثوا دماراً وفساداً في هذا البلد، فتفتت الميدان، وفقدت دمشق السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد. ومع ذلك كلّه، صمدت ووقفت وحدها في المواجهة مدافعةً عن خياراتها الكبرى، فتمسّكت بسيادتها، ولم تتراجع عن مواقفها قيد أنملة حتى استعادت معظم ترابها. 

وفي تلك اللحظات العصية، لم يساند دمشق سوى إيران وبعض حركات المقاومة، وعلى رأسها "حزب الله"، الذين التمسوا من كلّ الأحداث استهدافاً مباشراً يهدد وجودهم، فوقفوا خلف القيادة السورية صفاً منيعاً لصد المشروع الصهيو-أميركي عن المنطقة، وما لبث أن انعكس ذلك سريعاً على الميدان، فكانت المدن الكبرى تعود الواحدة تلو الأخرى، ثم أُضيف انتصار حلب في العام 2016 إلى انتصار حمص السابق لتلك المرحلة، لتخاض بعدها معارك الغوطتين والقلمون والرقّة وغيرها من المناطق العائدة إلى مكانها الطبيعي تحت سلطة الدولة السورية.

 ومع انقلاب الصّورة لمصلحة دمشق، بدأ العالم يتأقلم مع فكرة انتصار الأسد كاحتمال واقعي، بعد أن كان في السنوات الأولى استحالةً مطلقة في أذهان قادة دول الحرب على سوريا، وخصوصاً العرب منهم. 

وبعد اتخاذ سوريا مسار الانتصارات المتراكمة، كان عليها مواجهة سياسة الحصار الاقتصادي، فقد كان المطلوب منها أن لا تقاتل، وأن تخضع للهزيمة من دون مواجهة، وأن تسمح للإرهابيين بالسيطرة على أقدم عاصمة في التاريخ، وأن تقوم "إسرائيل الكبرى" على أرضها.

أما أن تقاتل وتصمد وتنتصر، فيعني أن تدفع الثمن حصاراً وتجويعاً. هذا الهدف أيضاً تعرَّض لفشلٍ صارخ. تمسَّك الشعب السوري بخياراته، وخسر ترامب، عرّاب الحصار، رهانه، ليرحل بعدها مع عشرات رؤساء الدول الذين قالوا مع بداية الحرب إنَّ "الأسد راحل". رحلوا جميعاً، وبقي الرئيس السوري منتصراً بإرادة شعبه، وبخياراته الرابحة التي لم تخب يوماً.

إنّها انتصارات لم تكن نتيجة للنّهج الَّذي اعتمدته سوريا فحسب. لقد كان الانتصار خيارها الاستراتيجي منذ اللحظة التي اعتنقت فيها العروبة عقيدة، واتخذت من المسار المقاوم نهجاً آمنت إيماناً مطلقاً به، فكانت على يقين تام بأنه المبتدأ والمنتهى، وأنَّ عاصمتها دمشق ستبقى، مهما حصل، قبلة العروبيين دائماً وأبداً، والحاضنة الراعية القابضة على الجمر، الساعية دائماً لتحقيق ما يصبو إليه محور المقاومة.