رفح... بداية أم نهاية ؟
طوفان الأقصى" فعل فعلاً عظيماً بإعادة قراءة المشهد الإسرائيلي غربياً، وما جبهات الإسناد إلّا رسالة بالغة الدلالة على أنّ المحور المقاوم فكّك عناصر مهمة بارتباطات "إسرائيل" مع القوى الغربية.
لا يبدو أنّ صدمة السابع من أكتوبر قد فارقت حالة السيطرة على الإدارة الإسرائيليّة، وما كنّا نسمّيه "حالة إنكار" تطوّرت لتصير "جنوناً"، لكنّ هذا الجنون ليس من فراغ، نحن نسمّيه كذلك، لأننا نرى المذبحة بهذا التوصيف، أما في حالة نتنياهو فهو استثمار لما تبقى من رصيد من شراكته المعقدة مع الغرب.
لذا، فإن قبول الوفد التفاوضي في القاهرة بالاقتراح العربي المدعوم خجلًا من الأميركي، هو أكثر ما يمكن تقديمه، فالمقترح العربي ليس بعيداً من طروحات المقاومة في غزَّة، ولا أظن أنّ الرهان على حشر نتنياهو في زاوية المعرقل واللاهث خلف الدماء، هو جوهر موافقة المقاومة على الطرح، بل هو على الأكثر تبرئة لذمتها، وحركة تكتيكية تأسيسية لما قد يترتب عليها من جانب الكيان المحتل من تداعيات ما بين قريبة وبعيدة المدى، المقاومة الفلسطينية أدت قسطها للعلا كما كل الجبهات المساندة، ساحبة كل الذرائع من باب حمايتها السياسيّة وما إبداء المرونة إلّا واجب أخلاقي إنساني مسؤول تجاه شعب يرزح تحت نير القتل الجماعي الممنهج، وهي العارفة أنّ نتنياهو عاجز عن القبول والرفض في آنٍ معاً فهو بات حبيس إخفاقاته "كالذي كذب كذبة صغيرة وكذب بعدها ألف كذبة كبيرة لتغطية الصغيرة"، لذا نرى العملية البرية المحدودة في رفح في توقيت حساس وأفق مسدود عسكرياً كخان يونس والشمال والجنوب وعموم القطاع.
الضغط الدولي وعزلة الكيان المحتل
ما هو الضغط الدولي؟ إذا كنا نتحدث عن النخب الحاكمة فهم أساساً شركاء "إسرائيل" منذ النشأة وما بعدها من تطور في العلاقات وتشابك الأهداف، إذ أصبحت جزءاً من المصالح الغربية في المنطقة وليست حليفاً تقليدياً، لذا فإن هزيمة الكيان المُحتل المعلق الإعلان الصريح عنها منذ السابع من أكتوبر، هو هزيمة لكل القوى الكولونيالية بشكل مباشر أو غير مباشر، فمن يتحدث عن صورة الكيان وعزلته والمجتمع الدولي ليس محقاً اليوم، لكنه إن قال إنه فعل تأسيسي للمستقبل فهو محق.
علينا أن نركز على أمرين جوهريين هما الدور الوظيفي والجدوى. الغرب عامةً يحاول اليوم إنقاذ "إسرائيل" لأنه بذلك ينقذ نفسه، وما المحاولات الدبلوماسية والضغوطات على الطرفين إلّا لهذا الغرض، باعتبار أنه يمكنهم ترميم الدور الوظيفي الذي ظلّ محل نقاش جدّي لعقود خلت، وهذا قبل الانهيار الكامل للإدارة أو ما يشبه الاستسلام لشروط المقاومة، نتنياهو يراهن على التوليفة المعقدة بين كيانه والغرب، المقاومة تعلم ذلك أيضاً، لأن مسار إدارتها للصراع يدل على أنها بوعي تاريخي واستقراء مستقبلي تريد الإجهاز كلياً على "الدور الوظيفي" ليُطرح السؤال الثاني الجوهري في زمانه ومكانه المناسبين عند الغرب وهو "ما الجدوى؟" أي ما العائد من استمرار دعمنا للميت، لأنّ فقدان الدور الوظيفي هو فقدان لمبررات الوجود أساساً كحالة طردية.
بعد تغيير فلسفة الصراع، أصبحت مقاربات محور المقاومة مختلفة، فكما اختلف شكل المواجهة بالجنوح نحو الحروب غير المتماثلة، تغيّرت معه النظرة الرؤيوية للصراع، لتصل آليات التفكيك المعقدة بين الغرب والكيان الجاثم على أنفاسنا في الشرق أولوية وحاجّة ملحّة في كينونة الصراع الجذري مع "إسرائيل" باعتباره المدخل الحتمي لهزيمة الكيان، هزيمة لا تقم له بعدها قيامة، لذا فالظن إيجاباً اليوم بالغرب خطأ، ولا أظن أن المحور يستعجل القريب.
هنا، بإمكاننا القول إن "طوفان الأقصى" فعل فعلاً عظيماً بإعادة قراءة المشهد الإسرائيلي غربياً، وما جبهات الإسناد إلّا رسالة بالغة الدلالة على أنّ المحور المقاوم فكّك عناصر مهمة بارتباطات "إسرائيل" مع القوى الغربية، كنقلة نوعية في الصراع، كذلك يدرك المحور أن قطع أنبوب الأوكسجين الغربي يأتي كأوّل الأولويات، وفهم طبيعة المصلحة بين الغرب و"إسرائيل" بات واضحاً وعملية الإجهاز تأخذ شقين ما أنف ذكره وجبهة الكيان الداخلية، كحالتين متلازمتين.
محزن أن البعض يظن الصراع "هجموا" ومحزنٌ أيضاً مقاربته على نحو تقدير الخسائر وحسب، وبالغ الحزن أن يرى البعض سقوط آخر كيان استيطاني إحلالي في التاريخ كالحروب الكلاسيكيّة القديمة، عندما كانت الجيوش ترتطم ببعضها بعضاً للفوز أو الخسارة.
"طوفان الأقصى" هي ذاك السهم الذي خرج من القوس، حيث لا عودة ولا خيار إلّا إصابة العدو مقتلاً بفعل نزيف مستمر، وما رفح إلّا فصل جديد في كتاب بداية نهاية "إسرائيل" التي عرفها العالم وشعبها، وما السير نحو تلك الغاية سوى عملية غاية في التأني وبعيدة عن صخب الموتورين والمتفذلكين والمستسلمين، أما أصحاب الرؤوس الحامية والراديكاليين المؤمنون بأحقيّة الصراع فما عسانا إلّا القول لهم إنّ «أخذ الحق حرفة ومقاومة مستمرة لأخذه».
ما ذكرناه ليس بترف صياغي أو تفلسف بالمعنى الشعبي، إنه ترجمة لأفعال ومتابعة حثيثة لأحداث، وحدث كـ"طوفان الأقصى" اعترف به العالم أنه جلل، لا يمكن أن تكون تداعياته عادية نمطية، كما لم يعد بإمكاننا الارتجال بالكليشيهات، فالزمن عندما يتغيّر، تتغير معه آليات القراءة، وإذا كانت فلسطين لا تستحق عناء البحث والتمحيص والمنهجية العلمية والمسؤولية أمام كل قلم أو خطيب مفوّه فمن يستحق! خصوصاً أننا نواجه عدواً بشعاً بكل المقاييس الإنسانيّة والأخلاقية، وأننا أمام إعادة كتابة التاريخ بنقدٍ لمفعول رجعي وحالي ومستقبلي وكما بسطوره حزن في طياته أيضاً نصر وملاحم ورجال لم يكدرها الأسى ولم يعلّب عقلها من أصله نسى.
وفي الخاتمة رد على «هيجل» الذي لم يكن محقاً عندما قال" إننا نتعلم من التاريخ أن المرء لا يستطيع أن يتعلم أي شيء من التاريخ" وتاريخ كتابتنا لهذا المقال أكبر برهان، إذ يضيف معنى تاريخياً مؤلماً لكنه حقيقي عندما قيل «إنّ الدماء هي المحرّك لعجلة التاريخ».