دبلوماسية الحوار الإيراني: توظيف التواصل عبر الحدود لمصلحة الشعوب المضطهَدة
في عالم تشكله قوة الكلمة، تجاوزت الاتصالات الاستراتيجية بين آية الله الخميني وآية الله خامنئي الحدود، وألهمت الحركات وطرحت التحديات على نحو واضح وصريح مع الشعوب والشبان حول العالم.
في سجلات التاريخ الحديث، لم يمتلك عدد من القادة السياسيين حول العالم القوة والقدرة على التواصل التي امتلكها ووظفها ببراعة كل من آية الله روح الله الخميني وآية الله علي خامنئي مع مختلف الشعوب والشبان حول العالم.
لم تشكّل هذه الشخصيات البارزة في الثورة الإيرانية وجمهورية إيران الإسلامية مصير أمتها فحسب، بل عرضت أيضاً رؤيتها نحو القضايا العالمية إلى ما هو أبعد من حدود إيران.
وكان لخطب هذه الشخصيات، المليئة بالحماسة والحجج المنطقية والمبنية على الواقع، صدى عميق داخل إيران وخارجها، الأمر الذي حفز جيلاً كاملاً على النهوض وإعادة تشكيل المستقبل.
وفي الوقت نفسه، سمح لهؤلاء القادة استخدامهم الاستراتيجي لوسائل الإعلام والاتصالات المكتوبة بالمشاركة والتأثير في جماهير متنوعة حول العالم، وتحويل السرد الثوري إلى خطاب عالمي يصل إلى الشبان في الولايات المتحدة وأوروبا، فضلاً عن الرأي العام الغربي والعالمي وقادة الدول.
لقد تجاوزت براعة الخميني وخامنئي في التواصل مجرد الخطابة، بحيث كانت أداة قوية للدبلوماسية والحرب الناعمة. وعندما نتحدث هنا عن الحرب الناعمة لا نقصد المفهوم الذي روّجه "المستعمرون الجدد" الذين عاثوا في دول العالم ظلماً وفساداً، بل نتحدث عن توظيف لغة الخطاب والحوار كمدخل لفهم قضايا التحرر العالمية ونصرة المستضعفين أينما كانوا وأيّاً كان توجههم السياسي أو الثقافي أو الديني.
وأظهرت قدرتهم على صياغة الرسائل التي تتناول التطلعات المحلية والمخاوف الدولية فهماً عميقاً للديناميكيات العالمية. ومن خلال تسخير قوة الكلمة، تحدوا الهيمنة الغربية بصورة فعالة وقدموا رؤية عالمية بديلة لقيت صدى لدى المجتمعات المضطهَدة والمهمَّشة في جميع أنحاء العالم.
ويؤكد هذا التأثير المزدوج (التعبئة المحلية والنفوذ الدولي) الإرث العميق لهؤلاء القادة، بحيث لم تكن اتصالاتهم تتعلق فقط بنقل المعلومات، بل كانت تتعلق بتحويل التصورات وإلهام العمل، الأمر الذي ترك علامات لا تُمحى في المشهدَين السياسي والثقافي والاحتجاجات المناصرة للقضايا العادلة حول العالم، في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين.
الأهمية الاستراتيجية لحوار ما خلف الحدود
إن قدرة الخميني وخامنئي على التأثير في نطاق واسع من الجماهير ليست عرضية. إنها استراتيجية محسوبة. ويدرك كلا الزعيمين القوة الهائلة للرأي العام وضرورة التعامل معه لدعم المبادئ الأساسية للنضال ضد المستعمرين وضد الرواية الغربية المزيفة عن حقوق الشعوب المضطهَدة. يخدم هذا التواصل أغراضاً متعددة، منها حشد الدعم، ومواجهة الروايات العدائية، ووضع الشعوب لاعباً محورياً في الساحات الأيديولوجية والسياسية العالمية.
فخلال الثورة الإيرانية عام 1979، ساهمت رسائل الخميني في نجاح الثورة الإسلامية وإسقاط الشاه. وأثارت خطبه وكتاباته المسجلة، والتي انتشرت على نطاق واسع بين الإيرانيين، المشاعر العامة ضد نظام الشاه. وعبّر أحد أعماله المبدعة، "الحكومة الإسلامية"، عن رؤيته لدولة متجذرة في كل من النزعة الجمهورية والمبادئ الإسلامية. وأصبح هذا الأساس المزدوج حجر الزاوية في النظام السياسي الفريد في إيران، والذي يتم تقويته بدعم ثابت من الشعب.
وفي كانون الثاني/يناير 1989، كتب الخميني إلى الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، ينصحه بالنظر إلى الإسلام نظاماً بديلاً مستقراً وقوياً وقابلاً للتطبيق وسط الانهيار الوشيك للاتحاد السوفياتي.
أكدت هذه الرسالة إيمان الخميني بالتطبيق العالمي للمبادئ الإسلامية. وسلطت توقعاته الثاقبة بشأن سقوط الاتحاد السوفييتي الضوء على فهمه العميق للأنظمة السياسية والأخلاقية، الأمر الذي عزز نفوذه في نفوس القادة في الاتحاد السوفياتي والعالم الغربي، بحيث جاء رد فعل غورباتشوف على هذه الرسالة مثيراً للاهتمام.
فبحسب ما ورد، ردّ بالقول: "في البداية، حاولنا أن نجعل الخميني شيوعياً، لكن يبدو الآن أنه يجب علينا أن نصبح مسلمين بدلاً من ذلك". إن هذا الاعتراف ببصيرة الخميني وقوة أيديولوجيته يكشف كثيراً من عمق رسالته وتأثيرها.
كما ورث آية الله خامنئي مهارة قدرة التواصل المؤثر، وصقلها عبر أعوام من الخبرة والتواصل مع الفئات الاجتماعية المتعددة، وخصوصاً مع الشبان في الغرب. في كانون الثاني/يناير 2015، خاطب خامنئي الشبان في أوروبا وأميركا الشمالية، وحثهم على السعي لفهم الإسلام بصورة غير متحيزة. وانتقد الحكومات ووسائل الإعلام الغربية بسبب إدامة الإسلاموفوبيا، وشدد على أهمية البحث المستقل لسد الانقسامات الثقافية والدينية.
وكثيراً ما تدور رسائل خامنئي إلى الرأي العام الغربي بشأن موضوعات، مثل الاستقلال والعدالة ومقاومة الهيمنة الغربية والقضية الفلسطينية. فمن خلال تصوير إيران حصناً ضد الإمبريالية، وجدت رسائله صدى بين الجماعات المنتقدة للسياسات الخارجية التي تنتهجها الحكومات الغربية.
ووظف خامنئي قدراته على التواصل بصورة متكررة في خدمة أكثر القضايا عدلاً حول العالم، وهي القضية الفلسطينية وقضية غزة بالتحديد، بحيث أشاد في رسالة للطلبة الداعمين لغزة بوقوفهم ضد "الكيان الإسرائيلي المغتصب" للأرض، وسلط الضوء على دورهم في إلهام العمل العالمي.
لقد صاغ نضالهم كجزء من جبهة مقاومة أوسع ضد الاضطهاد الصهيوني، مؤكداً الصواب الأخلاقي والتاريخي لقضيتهم. إن ما يقصده خامنئي من جهة المقاومة هو المفهوم الموسع لهذا المصطلح، بحيث يندرج تحت مظلته جميع من يدعم القضية الفلسطينية ويرفض الاضطهاد الممنهج الذي يتعرض له الفلسطينيون، ليس فقط في غزة، بل في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
وشددت رسالة خامنئي على الموقف المنافق للحكومة الأميركية فيما يتعلق بالفظائع في غزة، مشيراً إلى الدعم المستمر الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى "إسرائيل". ودعا الطلاب الأميركيين إلى استخلاص القوة من دعم أساتذتهم، وطمأنهم إلى أن مجرى التاريخ بدأ يتحول، وأن جبهة المقاومة تكتسب قوة وزخماً. واختتم رسالته بتشجيع الطلاب على التعرف إلى القرآن الكريم، مشيراً إلى أن تعاليمه ترشد المقاومة نحو النصر في نهاية المطاف.
مد الجسور بين الثقافات وإلهام التغيير
كما ذكرنا سابقاً، إن خطابات آية الله روح الله الخميني وآية الله علي خامنئي، المليئة بالحماسة والحجج المنطقية والارتكاز القوي على الواقع، كان لها صدى عميق داخل إيران وفي المستوى الدولي.
ومن أهم الآثار الإيجابية لهذه الرسائل دورها في سد الفجوات الثقافية. وكان تواصل خامنئي مع الشبان الغربيين جديراً بالملاحظة بصورة خاصة، بحيث حظيت جهوده للمشاركة في الحوار والحد من سوء الفهم بشأن الإسلام بالإشادة على نطاق واسع. ومن خلال مخاطبة الشبان الغربيين بصورة مباشرة، سعى خامنئي لتجاوز التمثيل الإعلامي الغربي المتحيز، وتشجيع رؤية أكثر دقة وشمولاً للإسلام وإيران، وبالتالي تسهيل فهم ثقافي أعمق وتعزيز الاحترام المتبادل.
كانت هذه الرسائل أيضاً مفيدة في إنشاء قنوات اتصال جديدة. وكونها مبادرة جريئة، فتحت مسارات للحوار المباشر بين جيل الشباب الغربي والمجتمعات العربية والإسلامية، الأمر الذي ساعد على تفكيك الصور النمطية وسوء الفهم، وتعزيز تبادل الأفكار بصورة أكثر دقة وتعاطفاً. ومن خلال إنشاء قنوات الاتصال هذه، وضع الخميني وخامنئي الأساس لمجتمع عالمي أكثر اتصالاً واستنارة.
ومن السمات المميزة لرسائل القادة اهتمامهم بتساؤلات الشبان الغربيين وهمومهم فيما يتعلق بالإسلام وإيران والقضية الفلسطينية. ولقيت هذه الرسائل، التي تتميز بلهجة ودية وصادقة، استحسان عدد من الشعوب غير المسلمة. ومن خلال معالجة هذه المخاوف بصورة مباشرة، قدم الخميني وخامنئي وجهات نظر حقيقية بشأن الإسلام، الأمر الذي ساعد على تبديد المفاهيم الخاطئة وتعزيز فهم أكثر استنارة.
وأدت الرسائل أيضاً دوراً حاسماً في تحفيز التفكير النقدي بين الشبان. وشجع القائد الأعلى للثورة الشبان على إجراء فحص نقدي للروايات الغربية بشأن القضايا العالمية الرئيسة، وخصوصاً القضية الفلسطينية. وألهم هذا التشجيع كثيرين على تحدي مفاهيمهم المسبّقة والبحث عن معلومات أكثر دقة من المصادر الأصلية، وتمكينهم من تطوير منظور أكثر دقة واستنارة بشأن قضايا التحرير العالمية.
علاوة على ذلك، فإن النغمة المفعمة بالأمل والمثالية لهذه الرسائل كان لها صدى عميق لدى الشبان، وألهمتهم السعي من أجل عالم أكثر عدلاً وسلاماً. ومن خلال توفير رؤية لعالم أكثر أماناً وإنصافاً للفلسطينيين وغيرهم من الجماعات المضطهدة، غرست الرسائل إحساساً بالهدف والدافع لدى جمهورها.
وأخيراً، ساهمت الرسائل في تعزيز الحركات الاجتماعية في أوروبا وأميركا الشمالية بين الشبان المسلمين وغير المسلمين. لقد حفزت النغمة المفعمة بالأمل والمثالية هؤلاء الشبان على النضال من أجل العدالة الاجتماعية وحقوق المضطهدين في جميع أنحاء العالم. ومن خلال تشجيع النشاط والتضامن، أدّت رسائل الخميني وخامنئي دوراً حيوياً في تمكين الجيل المقبل من العمل نحو عالم أكثر عدلاً وإنصافاً.
في عالم تشكله قوة الكلمة، تجاوزت الاتصالات الاستراتيجية بين آية الله الخميني وآية الله خامنئي الحدود، وألهمت الحركات وطرحت التحديات على نحو واضح وصريح مع الشعوب والشبان حول العالم.
لقد تركت قدرتهما على إشراك جماهير متنوعة عبر رسائل مقنعة عن العدالة والمقاومة علامة لا تمحى على الخطاب العالمي. وكونهما مهندسي الخطاب الثوري، نجحا في سد الانقسامات الثقافية وتمكين جيل جديد من السعي لدعم الشعوب والقضايا العادلة حول العالم.