حول استعمال واشنطن لحقّ الفيتو لمنع وقف العدوان على غزة
لا ينبغي النظر إلى لجوء واشنطن لاستعمال حقّ النقض للحيلولة دون صدور قرار ملزم من شأنه أن يوقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في قطاع غزة، من خلال مقاربة شكلية؛ بل يتعيّن تحليله وقراءته من خلال مقاربة قانونية موضوعية.
بتاريخ 8/12/2023، صوّتت الولايات المتحدة، بصفتها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، ضدّ مشروع قرار يدعو إلى وقف إنساني فوري لإطلاق النار في قطاع غزة. وقد أثار هذا الفيتو الأميركي ردود فعل حانقة، خاصة وأنه يساهم في استمرار ارتكاب الكيان الصهيوني جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
وإذا كان البعض من الذين يقاربون حقّ النقض (الفيتو) من زاوية شكليّة محضة، يكتفون بالقول إن الدول الدائمة العضوية تتمتع بموجب المادة (27) من ميثاق الأمم المتحدة باستعمال حقّ النقض في المسائل غير الإجرائية بلا تسبيب ووفقاً لسلطتها التقديرية، فإن هذا (الفيتو) يثير أسئلة وملاحظات كثيرة حول شرعيته ومشروعيته. فهذا المقال سيسلّط الضوء على افتقار الفيتو الأميركي لكلّ من الشرعية والمشروعية في القانون الدولي.
الواقع أنه لا ينبغي النظر إلى لجوء الولايات المتحدة لاستعمال حقّ النقض (الفيتو) للحيلولة دون صدور قرار ملزم من شأنه أن يوقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في قطاع غزة، من خلال مقاربة شكلية محضة؛ بل يتعيّن تحليله وقراءته من خلال مقاربة قانونية موضوعية، سياقية وشمولية.
فالولايات المتحدة استعملت حقّ النقض بغية تمكين الكيان الصهيوني من الاستمرار في عدوانه وجرائمه، ما يجعله استعمالاً معيباً قانوناً وغير مشروع لأسباب كثيرة.
مما لا شكّ فيه أن استعمال حقّ النقض من جانب الولايات المتحدة يتعارض مع قواعد دولية آمرة، وبالأخص تلك التي تحرّم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والعدوان. إضافة إلى تلك التي توجب احترام حقوق الإنسان الأساسية.
فالفيتو الأميركي من شأنه أن ييسّر الاستمرار بخرق القواعد الدولية الآمرة المذكورة من جانب الكيان الصهيوني. والقواعد الآمرة هي قواعد لا يجوز استبعادها أو التحلّل منها وتشكّل بمجموعها النظام العامّ الدولي. فضلاً عن أن هذا النوع من القواعد القانونية الدولية يتبّوأ تراتبياً المكانة الأسمى بين سائر قواعد القانون الدولي. وبالطبع ليس هنا المقام المناسب لاستعراض الاجتهادات القضائية الدولية المختلفة ذات الصلة بهذا النوع من القواعد الدولية.
على أي حال، تلزم الدول، والمنظمات والهيئات الدولية جميعها باحترام القواعد الآمرة. وكلّ اتفاق يتعارض معها يعد باطلاً. والالتزام باحترام قواعد القانون الدولي الآمرة يلزم بالطبع مجلس الأمن بصفته الجهاز التنفيذي للأمم المتحدة. وقد أشار القاضي في محكمة العدل الدولية والفقيه القانوني المرموق (فيتزموريس) في رأيه المخالف في إطار الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية المتعلّق بناميبيا، إلى أن مجلس الأمن يخضع للقانون الدولي، وكذلك الدول الأعضاء في المجلس والأمم المتحدة بوجه عام.
وهو الموقف ذاته الذي تبنّاه القاضيان في محكمة العدل الدولية (جنينغز وفيرمانتري) في قضية لوكربي. فضلاً عن أن الغرفة الاستئنافية للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة ليوغوسلافيا السابقة أشارت كذلك، في حكمها الصادر في قضية تاديتش، إلى خضوع مجلس الأمن لأحكام القانون الدولي، وإلى أن اللغة والعبارات المستخدمة في ميثاق الأمم المتحدة تدلّ على أنّ عدداً من سلطات وصلاحيات مجلس الأمن ليست مطلقة.
صفوة القول بخصوص هذه المسألة أنّ مجلس الأمن، بسبب خضوعه للقانون الدولي؛ يخضع بالطبع لقواعد القانون الدولي الآمرة، بل -على حدّ تعبير البروفيسور جيمس كرافورد-يجب أن يخضع لها. وهذا الالتزام لا يقتصر على المجلس كهيئة تابعة للأمم المتحدة، بل يشمل كذلك الدول الأعضاء في المجلس بما فيها الدول دائمة العضوية. لذلك فإن تمتّع هذه الأخيرة بحقّ النقض (الفيتو) لا يعني مطلقاً أنها خارج الالتزام باحترام قواعد القانون الدولي الآمرة أثناء قيامها بأعمالها داخل مجلس الأمن. فالقواعد الدولية الآمرة تحكم الجميع بلا أي استثناء.
ومن الأسانيد الأخرى التي تدعم خضوع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن للقواعد الدولية الآمرة، حقيقة أن الدول التي أنشأت الأمم المتحدة وأقرّت للدول دائمة العضوية بتلك الصفة وبحقّ النقض، ليس بمقدورها أن تمنح تلك الدول سلطة الإخلال بالقواعد الدولية الآمرة.
علاوة على أنّ المادة (24/1) من الميثاق أناطت بمجلس الأمن المسؤولية الأساسية في حفظ السلم والأمن الدوليّين. وينهض المجلس بتلك المهمّة نيابة عن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. الأمر الذي يعني قانوناً وعملاً أنّ مجلس الأمن، كجهاز يتصرّف بالنيابة عن تلك الدول، لا يملك البتة الإخلال بقواعد دولية آمرة؛ لا هو ولا الدول دائمة العضوية فيه.
بالاستناد إلى ما سبق، يتضح أنّ "الفيتو" الأميركي (موضوع هذا المقال) يتعارض مع مقتضيات المادة (24) من ميثاق الأمم المتحدة. إضافة إلى إخلاله بقواعد دولية آمرة. فهو أفضى إلى حيود مجلس الأمن عن النهوض بمسؤوليته الأساسية المتمثّلة بحفظ السلم والأمن الدوليين. لذلك من السائغ أن نؤكّد أن التفسير الأمثل لنصوص ميثاق الأمم المتحدة في ضوء نص المادة (24/1) منه، يعاضد الفكرة القائلة بأنّ استعمال الولايات المتحدة لحقّ النقض يساهم في استمرار الإخلال بالسلم والأمن الدوليّين في المنطقة من خلال إدامة ارتكاب الكيان الصهيوني للإبادة الجماعية في قطاع غزة. وهذا ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة بمناسبة ممارسته لصلاحياته الواردة في المادة (99) من الميثاق.
ومن الأسباب الأخرى التي تجعل الفيتو الأميركي مشوباً بعدم المشروعية أنه ينطوي على إساءة لاستعمال حقّ النقض، حيث يمكن تفسير أحكام ميثاق الأمم المتحدة على أنها تحظر إساءة استعمال الحقّ المذكور، خاصة وأنّ المادة (24/2) من الميثاق تفترض أن مجلس الأمن يقوم بمسؤولياته بما يتفق مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها. ومن بين تلك المقاصد، كما ذكرنا، حفظ السلم والأمن الدوليين، واحترام حقوق الإنسان وحقّ الشعوب في تقرير المصير.
وهي جميعها تتصف بأنها من القواعد الدولية الآمرة. واللافت للنظر في هذا الشأن أن الولايات المتحدة ذاتها، سبق لها أن علّقت على استعمال روسيا لحقّ النقض في أكثر من مناسبة بأنه من قبيل إساءة استعمال الحقّ.
إضافة إلى ما سبق، يتعارض الفيتو الأميركي مع أحد المبادئ الأساسية للأمم المتحدة وهو وجوب تنفيذ الدول الأعضاء التزاماتها الناشئة عن الميثاق بحسن نيّة. وهو كذلك من المبادئ العامة للقانون الدولي، ويتوجب على الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن مراعاته عند استعمال حقّ النقض.
وهذا ما لم تقم به الولايات المتحدة في إطار استعمالها لحقّ النقض لمنع صدور قرار بوقف إطلاق النار الفوري، خاصة وأن نيّتها من ورائه واضحة؛ وهي تيسير وتمكين الكيان الصهيوني من الاستمرار بجرائمه بحقّ الشعب الفلسطيني في غزة.
من الراجح في القانون الدولي أن قرارات مجلس الأمن المتعارضة مع قواعد دولية آمرة يشوبها البطلان. فهل ينطبق هذا الحكم على استعمال حقّ النقض بصورة تساهم في الإبقاء على إخلال بقاعدة دولية آمرة كما حصل في حالة الفيتو الأميركي؟
لا غرو أن الفيتو الأميركي ساهم في استمرار ارتكاب الكيان الصهيوني جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب وعدوان. فمشروع القرار الذي عرقلت الولايات المتحدة صدوره يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، والفيتو الأميركي يديم ويسهّل هذا الخرق لقواعد دولية آمرة، واستمراره والإبقاء عليه. وهو بذلك يتعارض حتماً مع وجوب إنهاء أيّ وضع ينطوي على إخلال بقاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي.
وختاماً، يتعارض استعمال الولايات المتحدة لحقّ النقض مع الحكم الوارد في المادة (41/1) من مواد مسؤولية الدول عن العمل غير المشروع الذي تبنّته الأمم المتحدة في عام 2001، حيث أن المادة المذكورة توجب على الدول التعاون لوضع حد وإنهاء أي إخلال جسيم بقاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي من خلال الطرق القانونية. ويمكن اعتبار الفيتو الأميركي بأنه حال دون التعاون لإنهاء إخلال بقاعدة دولية آمرة على النحو المذكور سابقاً.
فضلاً عن أن الفيتو الأميركي يتعارض كذلك مع المادة (41/2) من مواد مسؤولية الدول التي توجب على الدول عدم الاعتراف بقانونية أيّ وضع نشأ عن إخلال جسيم بقاعدة آمرة، وعدم تقديم أي عون أو مساعدة لإدامته أو للإبقاء عليه. ولا ريب أن الفيتو الأميركي يديم مثل هذا الوضع في قطاع غزة.
نخلص من المعطيات السابقة إلى أن الفيتو الأميركي معيب قانوناً وغير مشروع، وأنه يرتّب مسؤولية قانونية على الولايات المتحدة. وندعو في هذا الخصوص إلى استثمار الإجراء الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2022 بموجب التوصية رقم 76/262؛ والذي يتيح للجمعية العامة للأمم المتحدة أن تلتئم تلقائياً بعد عشرة أيام من استعمال حقّ النقض لمناقشته، والتعليق عليه والوقوف على أسبابه، وإلى وضع النقاط على الحروف بشأن اشتراك الولايات المتحدة في جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب في قطاع غزة، والتأكيد أنّ استعمالها لحقّ النقض يندرج ضمن هذا السياق، وأنها من خلال سلوكها هذا أضحت مصدراً لتقويض السلم والأمن الدوليّين وغير مؤهّلة لحفظه وصيانته.