تطورات المشهد السوري.. نقاط ارتكاز
تغيرات سياسية وجيوسياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية باتت تشكّل مفهوماً جديداً بمفاعيلها، وتبدلات في المشهد السياسي العالمي حملتها موسكو وبكين والرياض وأبو ظبي وطهران وأنقرة وباتت محاور جديدة في السياسة الدولية، في مقابل تراجع دور لندن وباريس وواشنطن.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى العقد الحالي، شهد العالم تغيرين في السياسة الدولية. الأول كان مع تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية، الأمر الذي أدّى إلى انتقال زعامة العالم إلى الولايات المتحدة. والثاني جرى من خلال ثلاثة عوامل متتالية: الأول مع استلام الرئيس بوتين الحكم في روسيا. والثاني مع الأزمات التي أصابت الدول العربية، تحت اسم "ثورات الربيع العربي". والثالث يتعلق بانكفاء واشنطن عن منطقة الشرق الأوسط، وانسحابها من أفغانستان، وتركيزها على مواجهة الصين وروسيا.
تغيرات سياسية وجيوسياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية باتت تشكّل مفهوماً جديداً بمفاعيلها. في المجمل، تبدلات في المشهد السياسي العالمي حملتها بضع عواصم (موسكو – بكين – الرياض – أبو ظبي – طهران – أنقرة) باتت محاور جديدة في السياسة الدولية الجديدة، في مقابل تراجع في مفاعيل القوى لكل من لندن وباريس وواشنطن في المنطقة.
تمكّنت هذه العواصم من تخطّي كثير من الحواجز وتثبيت وجودها وترسيخه. وكان للحرب الروسية - الأوكرانية انعطافه كبيرة في هذه المتغيرات، أثّرت، بصورة كبيرة، في العالم، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي، بعد أن قامت الولايات المتحدة بتوريط كل من أوكرانيا والاتحاد الأوروبي في هذه الحرب. وقد نشهد انعطافه أخرى أكثر أثراً، محورها الصين – تايوان، حركتها العجرفة المعتادة للولايات المتحدة الأميركية، وقد تمتد مفاعيلها إلى العالم برمته.
أدّت هذه المتغيرات إلى بروز قوى دولية، كروسيا والصين، وقوى إقليمية، كتركيا وإيران، وأن تصبح مؤثرة ولاعبة في منطقة الشرق الأوسط، بالإضاقة إلى بروز تحولات استراتيجية جديدة في سياسة بعض دول الخليج العربي، وخصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ثبّتتها قمة جدة الأخيرة.
تناولت قمة طهران عدة قضايا، منها التداعيات المترتبة على الوجود العسكري الأميركي في منطقة شمالي شرقي سوريا، سياسياً وميدانياً، وإمكان حسم ثنائية مساري أستانة وجنيف، بحيث يتم الإبقاء على المسار الأول لإدارة الوضع من جانب الدول الضامنة الثلاث، وطيّ صفحة المسار الثاني، الذي لم يحقق تقدماً، وإمكان التقارب بين النظامين السوري والتركي، والذي شهد نشاطاً متزايداً بين الطرفين. فالتعاون الاستخباريّ بينهما قائم منذ فترة طويلة، ولا يزال مستمراً، كما أن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني لأنقرة في 27 حزيران/ يونيو الماضي، ثم زيارته دمشق في 3 تموز/يوليو، ربما أوجدتا تفاهمات غير معلنة تم طرحها في اجتماع طهران، وهو ما قد يكون السبب، الذي دفع وزير الخارجية السوري إلى الوصول إلى طهران خلال اجتماع القمة الثلاثي. ويبدو أن هذه التفاهمات أوصلت الأطراف المجتمعة إلى الاتفاق على ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا، وبسط سيطرة الدولة السورية على جميع الأراضي، وخصوصاً في الشمال، الأمر الذي يَحُول دون إصرار تركيا على اجتياحها لها.
يُعَدّ المشهد السوري إحدى نقاط الارتكاز في الشرق الأوسط بالنسبة إلى المتغيرات الدولية التي يشهدها العالم اليوم. ونتيجة ذلك، لم تمضِ أيام قليلة على انتهاء قمة طهران حتى صرّح وزير الخارجية التركي بأن بلاده على استعداد كامل لدعم النظام السوري في مواجهة تنظيم (YPG/PKK)، أو "التنظيم الإرهابي"، كما وصفه. وقال بتاريخ 27/7/2022، بحسب ما نقلت وكالة "الأناضول"، إن بلاده أجرت سابقاً محادثات مع إيران بخصوص إخراج "الإرهابيين" من المنطقة، مضيفاً: "سنقدم كل أنواع الدعم السياسي لعمل النظام السوري في هذا الصدد". وتابع أن من الحق الطبيعي للنظام السوري أن يزيل "التنظيم الإرهابي" من أراضيه. ثم أَتْبَع بهذا التصريح تصريحاً آخر كشف، من خلاله وزير الخارجية التركي، عن لقاء جرى بين وزيري خارجيتي البلدين في بلغراد، على هامش أعمال قمة عدم الانحياز. كما أن القمة، التي عُقدت بين الرئيسين الروسي والتركي، مهدت لإمكان حدوث اتصال قريب بين الرئيسين التركي والسوري.
يبدو أن القوى المؤثّرة في سوريا اتفقت أخيراً، في قمة طهران، على تسريع المفاوضات بين "قسد" والنظام السوري، والتي تجري برعاية روسية وتنسيق مع إيران، من أجل تعزيز التقارب بين الطرفين. وشهدت الفترة الأخيرة، وتحديداً منذ حزيران/يونيو الماضي، تقدماً ملموساً في هذا الشأن، بحيث قامت القوات السورية بتعزيزات عسكرية في مناطق نفوذ "قسد"، في أرياف حلب والحسكة، كما انتشرت هذه القوات في مناطق منبج وتل رفعت شمالي محافظة حلب.
فإيجاد الحلول على الأرض السورية أصبح مطلب الجميع، وهذه الحلول تتطلب مغادرة القوات العسكرية للولايات المتحدة الأميركية الداعمة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" ("قسد")، وفصيل "مغاوير الثورة للأراضي السورية". وتتطلب أيضاً عدم السماح باجتياح تركي للشمال السوري، الأمر الذي يتطلب مساعدة الدولة السورية على بسط نفوذها على هذه المناطق. وهو ما دفع "قسد" إلى المسارعة إلى تعزيز علاقاتها بموسكو وطهران، والتعاون مع الحكومة السورية.
إن المتابع للسياسة التركية الحالية يجد أنها تحاول من جديد العودة إلى تطبيق سياسة "صفر مشاكل"، وبدأتها بإعادة التطبيع مع عدد من الأطراف التي ناصبتها العداء، مثل السعودية وأرمينيا ومصر والإمارات و"إسرائيل"، وأصبح واجباً عليها تحقيق علاقات جديدة بدول الجوار المحيطة بها للعودة إلى سياسة "صفر مشاكل".
متغيرات كثيرة تشهدها المنطقة، فلقد ساهمت عوامل كثيرة في تمكين إيران من تحسين شروط المفاوضات المتعلقة بالاتفاق النووي، وتمكين دول الخليج العربي من رفض الأحلاف العسكرية، وانفرادها بمواقف سياسية جديدة. كما أن العلاقات العربية وغير العربية بسوريا بدأت تعود بالتدريج، منذ عدة أعوام، وإمكان وقف تجميد عضويتها في جامعة الدول العربية قائم. والموقف الروسي تبدّل بعد الحرب في أوكرانيا فيما يتعلق بالتفاهمات الروسية - الإسرائيلية، بشأن العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، بحيث وجهت روسيا، لأول مرة إلى مجلس الأمن الدولي، في 20 حزيران/ يونيو الماضي، مذكِّرة تطالب بموجبها بإصدار قرار يستنكر الهجوم الإسرائيلي على مطار دمشق. كما أعلنت موسكو أن القصف الإسرائيلي المستمر على أهداف في سوريا يشكل خرقاً للقانون الدولي، وعملاً غير مسؤول، ولا يمكن قبوله.
واستدعت سفير "إسرائيل" في موسكو إلى وزارة الخارجية ليقدّم توضيحاً عن الضربة الجوية للمطار. أمّا أنقرة، التي رفض المجتمع الدولي قيامها بغزو الشمال السوري، فتسعى لعودة سياستها السابقة، والتي خسرتها في تدخلها في أحداث عام 2011 وما بعدها، وتبدو اليوم أنها أقرب إلى موقف موسكو من قربها إلى واشنطن. وهي ترى أن الدعم الأميركي هو السبب الأساسي في تنامي مشروع "قسد" في شمالي شرقي سوريا. وبالتالي، يبدو أنها وجدت أن التقارب مع سوريا هو الطريق الأكثر ملاءمةً والأسهل لها من أجل عودة علاقاتها الطبيعية بدول المنطقة.