الولايات المتحدة الأميركية حامية الانهيار
تظهر مبادرة "حامي الازدهار" الأميركية وكأنها حامي الانهيار للاستثمار الأميركي في الكيان الإسرائيلي، الذي يظهر إخفاقه في تحقيق أي نصر ميداني في حربه العدوانية على غزة.
أعلن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، تشكيل مبادرة "حامي الازدهار" وهي مبادرة أمنية جديدة متعددة الجنسيات تحت مظلة القوات البحرية المشتركة وقيادة فرقة العمل 153 التابعة لها، والتي تركّز على الأمن في البحر الأحمر، مدّعياً أن تصعيد "الحوثيين" لهجماتهم المتهورة يهدّد التدفّق الحرّ للتجارة وينتهك القانون الدولي، ما استدعى العمل بشكل مشترك لمواجهة هذا التحدّي.
وأشار أوستن في بيان إلى أن المبادرة تشمل عدة دول هي المملكة المتحدة والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا.
مبادرة الولايات المتحدة العسكرية تأتي بعد إعلان مورّدي الطاقة العالميّين والشاحنين التجاريين تجنّب مضيق باب المندب الضيّق في الطرف الجنوبي للبحر الأحمر، حيث تبحر الناقلات على مسافة قريبة من اليمن، فضلاً عن أن كلام أوستن جاء بعد ساعات فقط من إعلان شركة النفط البريطانية العملاقة "بريتيش بتروليوم" أو "بي بي" أنها أوقفت جميع الشحنات عبر البحر الأحمر، مشيرة إلى "تدهور الوضع الأمني" في المنطقة، خاصة أن "بي بي" تعتبر منتجاً كبيراً للنفط في العراق والغاز في عمان.
اللافت هو أن دولاً مثل جيبوتي وأثيوبيا والصومال والسودان ومصر والأردن، وهي دول مشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، لم ولن تشارك في المبادرة الأميركية بالرغم من تحالفاتها وعلاقاتها المهمة مع الولايات المتحدة، وهذا بحد ذاته يمثّل فشلاً أميركياً يضاف إلى سلسلة الإخفاقات الأميركية في المنطقة التي تعمل فيها الولايات المتحدة لحماية الكيان الصهيوني من التهديدات التي يتعرّض لها على خلفية حرب الإبادة التي يشنّها على غزة بشراكة كاملة مع واشنطن.
حقيقة الموقف اليمني المتقدّم
تميّز الموقف اليمني منذ بداية الحرب العدوانية على غزة بالوضوح والثبات والتدرّج، حيث أعلنت القوات المسلحة اليمنية استهدافها لعدد من المناطق المحتلة في العمق الإسرائيلي بالصواريخ والمسيّرات، ثم انتقلت بعد ذلك إلى الإعلان عن أنها ستعترض السفن الإسرائيلية وغير الإسرائيلية المتجهة إلى فلسطين المحتلة، مؤكدة أنها حريصة على سلامة الملاحة الدولية، كما وأمن الممرات المائية الدولية كما هو الحال في مضيق باب المندب، حيث تعبر مئات السفن يومياً من خلاله من دون أن يتم اعتراضها، وتؤكد صنعاء أنّ قرارها هذا لا رجعة عنه حتى يتم وقف الحرب العدوانية على غزة ورفع الحصار عنها وإدخال المساعدات إليها.
وأوضح اليمنيون أنّ التحالف الدولي الذي أعلنته الولايات المتحدة بحجة حماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر إنما هو تحالف لحماية الكيان الإسرائيلي وحماية السفن الإسرائيلية، وهو جزء لا يتجزأ من العدوان على الشعب الفلسطيني وعلى غزة وعلى الأمة العربية والإسلامية وهو يهدف إلى تشجيع الكيان الإسرائيلي لمواصلة جرائمه الوحشية بحق الشعب الفلسطيني في غزة، وأن هذا التحالف يتناقض مع القانون الدولي ولا يحمي الملاحة البحرية بل يهدّدها ويسعى إلى عسكرة البحر الأحمر لصالح الكيان الإسرائيلي، وعليه فإنّ ما تقوم به القوات المسلحة اليمنية من اعتراض للسفن الإسرائيلية والسفن المتجهة إلى الكيان الإسرائيلي هو واجب إنساني وأخلاقي يهدف إلى فك الحصار الخانق المفروض على غزة، وهو الدور الذي كان ينبغي أن تقوم به الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والهيئات والدول التي تتشدّق بالدفاع عن حقوق الإنسان وحماية المدنيين.
الموقف اليمني ينسجم بالكامل مع أحكام وقواعد القانون الدولي الذي تهشّمه الولايات المتحدة، التي تعمل من خارج إطار الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وهذا ديدن السياسات الأميركية قديمها وجديدها، وأيضاً من خلال تغطيتها للحرب العدوانية على غزة وللإبادة الجماعية التي تحصل فيها، حيث عطّلت وأجهضت واشنطن العديد من مشاريع القرارات التي قدّمت إلى مجلس الأمن الدولي، كما وبدت معزولة في جلسته الأخيرة التي عقدت لهذه الغاية، وتزايدت هذه العزلة في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار الذي قدّمته المجموعة العربية لوقف الحرب العدوانية على غزة.
أهداف واشنطن من مبادرتها العسكرية
من نافل القول إنّ سمعة الولايات المتحدة الأميركية منذ غزو أفغانستان فالعراق وليبيا وسوريا هي في الحضيض، إذ دائماً ما يظهر أن تدخّلات الولايات المتحدة الأميركية العسكرية في كلّ بقاع العالم لم تكن بدافع أخلاقي أو تنفيذاً للشرعية الدولية، وإنما لتحقيق مصالحها وأهدافها التي تتقدّم على ما عداها على كامل الخارطة العالمية، وعليه يمكننا تلخيص أهداف واشنطن من مبادرتها العسكرية بما يلي:
أولاً ـــ يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة الأميركية راغبة في إشعال فتيل الصراعات في المنطقة على عكس ما تعلنه من أنها لا ترغب في توتير الأجواء والأوضاع في المنطقة، وذلك لاحتواء وإفشال محاولات التقارب والتفاهم التي أعلنتها مؤخّراً دول وازنة في المنطقة بعيداً عن المظلة والرعاية الأميركية، ولعل أبرزها التفاهمات الأولية الإيرانية السعودية التي أقلقت واشنطن ومعها "تل أبيب"، وبدا أنّ النفوذ الأميركي آخذ بالضمور والتراجع، بالتوازي مع تنامي نفوذ كل من الصين وروسيا، والتي يظهر أنّ انخراطهما بشكل كبير في علاقات متينة مع دول المنطقة، تختلف في مقارباتها عن تلك الأميركية التي غالباً ما تكون مختلّة بالكامل لصالح واشنطن من دون الأخذ بمصالح دول المنطقة، لذا تستغلّ الولايات المتحدة الحرب على غزة لإعادة ترميم نفوذها والإضرار بالتفاهمات في المنطقة.
ثانياً ـــ محاولة استدراج مصر للاشتراك في المبادرة باعتبارها دولة مشاطئة للبحر الأحمر، وصاحبة السلطة على قناة السويس التي تأثّرت إلى حد ما من جرّاء امتناع عشرات السفن عن الإبحار في البحر الأحمر وتغيير مساراتها، وأيضاً إعلانات كبريات شركات الشحن تجنّب الإبحار في البحر الأحمر، وهذا قد يؤدي برأي واشنطن إلى تغيير موقف القاهرة برفض طروحات تهجير وتوطين الفلسطينيين في سيناء مقابل مساعدات مالية واقتصادية لها تخرجها من أزماتها البنيوية، التي تشكو منها ومن دائرة التردّد لناحية عدم الانخراط في الترتيبات الأمنية والعسكرية التي كانت تعمل عليها الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس ترامب وحتى اليوم، فضلاً عن العمل على توريط مصر بدخول ترتيبات ما بعد الحرب التي يجري نقاشها بين واشنطن و"تل أبيب" لاحتواء تداعيات الحرب العدوانية على غزة التي يظهر أنها ستكون كارثية على الكيان الإسرائيلي.
ثالثاً ـــ تحويل دول المنطقة إلى واقٍ وحامٍ وحارس للكيان الإسرائيلي، وهذا قد يسهّل على واشنطن لاحقاً إعادة تزخيم مسار التطبيع لتكريس الكيان الإسرائيلي باعتباره جزءاً طبيعياً من نسيج المنطقة.
رابعاً ـــ الارتداد إلى المنطقة بعد إخفاقاتها الكبرى في أوكرانيا في مواجهة روسيا، واستنفاد كل الإمكانيات المتاحة لها في منطقة شرق أوروبا، حيث تظهر المؤشرات والدلائل أنّ روسيا تحكم قبضتها على ميدان الحرب الأوكراني، لذا تحتاج الولايات المتحدة إلى عمل أو حراك ما لتعويض نكستها بما يظهرها قادرة على التحكّم بخيوط اللعبة الدولية، وعليه بادرت الولايات المتحدة إلى استغلال مسألة الملاحة الدولية والممرات المائية لإعادة تظهير دورها في المنطقة باعتبارها صاحبة الكلمة العليا فيها.
خامساً ـــ توريط عدد من الدول العربية للانضواء في المبادرة التي قد تتحوّل لاحقاً إلى حلف عسكري تستغله في محاربة إيران، فتاريخ تشكيل التحالفات الأميركية لمواجهة الأخيرة من دول عربية لم تكن ناجحة ومشجّعة على الإطلاق، فواشنطن تدرك أنّ رخاء المنطقة وازدهارها يقوم على حسن الجوار والعلاقات الطيبة بين دولها بعيداً عن تأثيراتها السلبية، لذا يجب إبقاء فتيل التوتير وعوامل التفجير ملتهبة، لإبقاء حالة الريبة والعداوة حاكمة وسائدة، من خلال تصوير أنّ ما يقوم به اليمنيون من نصرة غزة هو بتحريض من إيران ودعمها لحركة أنصار الله اليمنية التي تهدّد طرق التجارة الدولية في دعاية مفضوحة من واشنطن.
حسابات السعودية والإمارات
كان لافتاً عدم مشاركة كلّ من السعودية والإمارات في مبادرة "حامي الازدهار" حيث يفسّر موقف البلدين في سياق إخفاق وفشل حربهم العدوانية على اليمن على مدار التسع سنوات المنصرمة، وبالتالي تدرك كل من الرياض وأبو ظبي أن أي عمل عسكري ضد اليمن سيؤدي حتماً إلى تعرّضهما لضربات القوات المسلحة اليمنية، وقد عبّر عضو المكتب السياسي لحركة أنصار الله اليمنية محمد البخيتي عن الموقف اليمني تجاه أيّ مشاركة سعودية إماراتية محتملة في المبادرة بالقول: "إنها ستؤدي إلى ضرب حقول ومنشآت النفط والغاز في السعودية والإمارات، كما واستهداف كل السفن التي تنقل النفط إلى أوروبا على أبواب الشتاء"، وعليه تكمن عدم مشاركة الرياض وأبو ظبي في المبادرة الأميركية بالخشية من ردة الفعل اليمنية التي خبرها البلدان بشكل جيد.
وعلى الرغم من الإعلانات المتكررة لوزارة الدفاع الأميركية بأن عدد الدول التي ستنضوي في المبادرة قد بلغ 20 دولة، إلا أنّ الوقائع تظهر أن عدداً من الدول أعلنت مواقف مغايرة للإعلان الأميركي، ففرنسا أعلنت أنّ سفنها الحربية الموجودة في المياه الدولية في البحر الأحمر لن تعمل إلا تحت قيادة فرنسية، بدورها أعلنت وزارة الدفاع الإسبانية، أن مدريد لن تشارك في عملية "حامي الازدهار" الأميركية لضمان سلامة حركة الملاحة في البحر الأحمر خوفاً من تكرار الهجمات الأخيرة التي شنها "الحوثيون".
في المحصلة، تظهر مبادرة "حامي الازدهار" الأميركية وكأنها حامي الانهيار للاستثمار الأميركي في الكيان الإسرائيلي، الذي يظهر إخفاقه في تحقيق أي نصر ميداني في حربه العدوانية على غزة، حيث الشراكة الأميركية في جرائم الإبادة والقتل والعقاب الجماعي والحصار الجائر واللا قانوني ضد الشعب الفلسطيني وتجويعه، ومنع الدواء والغذاء والمحروقات وفتح المعابر وسعيها لتصفية القضية الفلسطينية، هذا الإخفاق الذي ظهرت تجلياته في عزلة واشنطن في الأمم المتحدة وتلقّيها ضربة كبيرة لمكانتها وهيبتها، حيث اصطفّ العالم مع فلسطين، فيما بقيت الولايات المتحدة وحيدة ومعها بضع دول، وعليه لم يبقَ لها سوى مواجهة اليمنيين بدول "قوية" كالبحرين وجزر سيشيل.