المطران كبوجي اللّاهوتي المقاوم
خرج المطران كبوجي من سجنه منتصراً وتحوّل إلى أيقونةٍ ثوريّةٍ لكلّ المقاومين الشّرفاء. ذلك هو المطران المسيحيّ المقاوم فأين بعض المطارنة منه اليوم؟ وأين من زاروا رئيس العدوّ الصّهيوني هرتسوغ مقدّمين له التّهاني برأس السنة؟
في 1_ 1_ 2017، رحل مطران المقاومة إيلاريون كبوجي المسيحيّ الذي سلك طريق الجلجلة على خُطى السّيد المسيح(ع) والتي عبّدها بآلامه المبرّحة، وبأوجاعه حاملًا معه عذابات الإنسان ومظلوميّته وأحزانه، معبّداً طريق الفداء والخلود وراسماً درب الأمل والانتصار على الظّالم، موقناً بأنّ لا خلاص من دون التّضحيّات.
وعلى ذلك النّهج، مضى المطران كبوجي ناصراً وقائداً في مواجهة الطّاغية الصّهيونيّ المحتلّ، وهو المؤمن بقضية فلسطين العادلة التي دعمها بكلّ ما أوتي من قوّةٍ بإنسانيّته وبرسالته الدّينيّة المسيحيّة وهو راسخ اليقين بأنّ "المسيح هو فدائي فلسطين الأوّل الذي اتخذ من نهجه مسلكاً في مواجهة لصوص الهيكل، معلناً أنّ الحرب مع الكيان الصّهيوني هي حرب وجود وليس حرب حدود.
فتاريخ المطران الرّاحل إيلاريون كبوجي يشهد على مدى تفانيه في نصرة الحقّ، ومواجهة الباطل والتّصدّي للظّالم، فحياته الحافلة بالعمل المقاوم تحمل الكثير من التفاني والإيثار في نصرة المظلومين والمستضعفين. فالمطران المولود في مدينة حلب لم تختلف مواقفه عن مواقف الشّيخ عزّ الدين القسّام، ابن جبلة السّوريّة، الذي باع منزله لشراء سلاح للمقاومين الفلسطينيّين لمواجهة الاحتلال.
فالمطران كبوجي الذي أنهى دراساته حتّى المرحلة الثّانويّة في مدارس حلب لينتقل في سنة 1933 إلى دير الشير في لبنان، متابعاً دروسه حتى سنة 1944 ثم غادر إلى دير القدّيسة آن في القدس لإكمال دروسه اللّاهوتيّة. وعُيّن كاهناً في سنة 1947، ثم عُيّن مساعداً للبطريرك مكسيموس صايغ ومسؤولاً عن أبرشيات دمشق وجوارها. وفي سنة 1962، شغل مناصبَ عديدةً واستمر بالتدرّج في السّلك الكهنوتي إلى أن عيّنه الفاتيكان في منصب مطران الرّوم الكاثوليك في القدس، عام 1965.
فكان حريصاً على بناء علاقاتٍ وطيدةٍ مع أهل القدس مسلمين ومسيحيّين الذين ربطتهم به علاقاتٌ وديّة. وقد عايش المطران كبوجي حرب حزيران عام 1967، وغزو العدوّ الإسرائيلي للقدس فكانت أولى نقاط انطلاقه في العمل المقاوم بعدما دفن أكثر من أربعمئة شهيدٍ مقدسيٍّ قتلهم الاحتلال، وصلّى عليهم برفقة شيخ من القدس.
مشاهد الغزوّ والانتهاكات الإسرائيليّة التي تعرّض لها الشّعب الفلسطينيّ، وانتهاك الاحتلال الأراضي والمقدّسات شكّلت الحافز الأوّل للمطران كبوجي للتمرّد على الحياد، واتخاذ موقفٍ عمليٍّ لمواجهة الاحتلال الإسرائيليّ، منخرطاً في العمل المقاوم ضدّ الاحتلال، جاعلاً من عباءته الكهنوتيّة حصناً للمقاومة ودرعاً لها، فكان مساهماً كبيراً في مواجهة الاحتلال على المستوى المدنيّ أيضاً، وتجلّى ذلك من خلال تميّزه عن سائر رجال الدّين في القدس برفضه حضور الاحتفالات والاستقبالات الرّسمية التي تنظّمها سلطات الاحتلال الإسرائيليّ حتى إنّه طلب من أساقفة القدس رفع الأعلام السّود فوق مركزهم ومنازلهم وقرع أجراس الكنائس في أثناء جنازته حداداً على وفاة جمال عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر 1970 إضافة إلى تنظيمه التظاهرات ضدّ الاحتلال، ودعم مجموعات المقاومة ومدّها بالسّلاح الذي كان يتولّى تهريبه بنفسه على مدى أكثر من ست سنوات من لبنان إلى فلسطين بسيّارته الخاصّة، كونه رجل دين يتمتع بحصانةٍ دبلوماسيّةٍ بعد حصوله على جواز سفر دبلوماسيّ مُنِح له من الفاتيكان.
وبحكم ذلك لم يكن يخضع لعمليات تفتيشٍ من الاحتلال، فاستمر بنقل السّلاح إلى داخل فلسطين وكان يخفيه في مدرسة الكنيسة اليونانيّة الكاثوليكيّة، في بيت حنينا ومن ثمّ يقوم بتسليمه إلى رجال المقاومة حتّى العام 1974 حيث تمّ اعتقاله بعد تفتيش سيارته بناء على معلومات استخباريّة، إذ وجدت في داخلها كميّة من الأسلحة والمتفجرات وتمّ اعتقاله وتحويله إلى القضاء العسكريّ، وبعد محاكمةٍ استمرّت 108 أيام بتهم متعدّدة منها التّعاون مع خلايا إرهابيّةٍ لضرب "دولة إسرائيل" وتهريب السّلاح بقي مصرّاً على موقفه بعدم الاعتراف بشرعيّة المحكمة كونها محكمة محتلٍّ.
وبالرّغم من ذلك، حُكم عليه باثني عشر عاماً، تمّ بعدها نقله إلى سجن الرّملة وتعرّض لأساليب الضّغط كافة والتّعذيب النّفسيّ وصادروا منه لباسه الكهنوتيّ وكتاب الصّلاة ومنع من إقامة القدّاس فخاض معركة إضراب عن الطّعام لمرّات عدة إلى أن تدخّل الفاتيكان والبابا بولس السّادس شخصيّاً، وبعد مفاوضاتٍ طويلةٍ وشاقّةٍ، وافق الاحتلال على إطلاق سراحه ونفيه خارج فلسطين.
خرج المطران كبوجي من سجنه منتصراً شامخاً مرفوع الرّأس وتحوّل إلى أيقونةٍ ثوريّةٍ لكلّ المقاومين الشّرفاء. ذلك هو المطران إيلاريون كبوجي المسيحيّ المقاوم فأين بعض المطارنة منه اليوم؟ وأين من زاروا رئيس العدوّ الصّهيوني هرتسوغ مقدّمين له التّهاني برأس السنة؟ وأين هم من المطران عطا الله حنّا وغيره من المطارنة الشّرفاء؟