الربيع الأفريقي
خسرت فرنسا في وقت قصير ثلاث مستعمرات مهمة، وهذه المستعمرات تغذي فرنسا باليورانيوم والذهب واحتياطي البنك المركزي.
مِن الزعيم الشاب، قائد نهضة بوركينا فاسو الأولى، الضابط توماس سانكارا، إلى الشاب النقيب في الجيش، إبراهيم تراوري، الذي وُلد عام 1988، وقاد الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو، لينصّب نفسه رئيساً للبلاد ويصبح أصغر رئيس دولة في أفريقيا، وربما في العالم.
هذا الشاب، الذي كان أول قراراته طرد القوات الفرنسية من بلاده، ومنع تصدير اليورانيوم إلى فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، والذهب إلى بريطانيا، وأول تصريح أطلقه، قال فيه إن "زمن عبودية أفريقيا للأنظمة الغربية انتهى، وبدأت حركة الاستقلال التام... إمّا الوطن وإمّا الموت"، ومثله المئات الذين ينظرون إلى سانكارا نظرة الملهم والرمز، حتى بعد اغتياله بعشرات الأعوام على أيدي عملاء فرنسا في بوركينا فاسو.. هذا الشاب يريد تحقيق حلم سانكارا (الملهِم وأبي ثورة بوركينا فاسو)، أو ما لم يستطع تحقيقه، لأنه اغتيل قبل تحقيق أحلامه.
سانكارا والوعي المبكر
كان سانكارا يسارياً ماركسياً منحازاً إلى الطبقات الفقيرة، ومعادياً لقوى الاستعمار الغربي. في عام 1983، قاد انقلاباً عسكرياً لقي تأييداً شعبياً كبيراً، وتولى الحكم في بلاده، وبدأ ثورة شاملة متباينة عن كل الثورات والانقلابات الأفريقية الأخرى، فأمّم الموارد الطبيعية، وخصوصاً زراعة القطن، التي ظلت عقوداً تحت سيطرة الفرنسيين، وركز على محاربة الجوع، فأصلح الأراضي الزراعية، وغرس 10 ملايين شجرة، وباتت بوركينا فاسو أول بلد أفريقي يحقق الاكتفاء الذاتي من دون مساعدات دولية. كما عزز قطاع الصحة، وفي ظرف أسبوعين نجحت بوركينا فاسو في تطعيم 2.5 مليون طفل ضد التهاب السحايا والحمّى والحصبة، وكان مناصراً لقضايا المرأة، ففرض إلزامية تعليمهن، وجرّم العنف ضدهن.
كان مناهضاً للإمبريالية والاستعمار واستغلال العالم الغربي لبلدان العالم الثالث، وخصوصاً أفريقيا، فلُقِّب بـ "غيفارا أفريقيا"، وسرعان ما أصبحت فرنسا من أكبر أعدائه، حين بدأ يحاول إطاحة نظام "الفرنك الأفريقي"، وتحريض القادة الأفارقة على التخلص النهائي من التبعية الأجنبية.
في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1987، اغتيل القائد الوطني الأفريقي توماس سانكارا مع 12 وزيراً من وزرائه خلال اجتماع الحكومة. وُجِّهت أصابع الاتهام إلى الاستخبارات الفرنسية، التي نفَّذت تلك المؤامرة على يد صديقه ويده اليمنى وعميلها بليز كومباوري، الذي ظل 37 عاماً في الحكم حتى ثار عليه الشعب في عام 2014، وحكم عليه القضاء بالسَّجن مدى الحياة بسبب تورطه في قتل الزعيم الأفريقي، صديقه توماس سانكارا.
للأسف، فإن هذا الربيع الأفريقي المبكّر لم يصمد طويلاً أمام مؤامرات الغرب، وفي المقدمة فرنسا، حتى مجيء الربيع الثاني على يد الرئيس الحالي تراوري من خلال انقلاب قاده في 30 أيلول/سبتمبر 2022. لا شك في أن طيف سانكارا وصورته وإنجازاته هي الملهمة للرئيس الحالي، ولآلاف الأفارقة الذين يَعُدّونه رمزاً للنضال الوطني وتحرير بلادهم من استغلال الغرب غير المحدود لثروات أفريقيا، والتي تُعَدّ أغنى قارة على وجه الكرة الأرضية.
وجدت بوركينا فاسو وبعض الدول الأفريقية نفسها متورطة بصورة متزايدة في التنافس في الحرب الباردة، والتي اشتعلت من جديد بسبب الصراع في أوكرانيا، بحيث تسعى روسيا لتوسيع نفوذها في المنطقة على حساب فرنسا (الدولة المترهلة). وهو، أي الرئيس تراوري، يسعي للتنسيق الدائم والتناغم مع جارته مالي، التي خرجت من العباءة الفرنسية، وبدأت فتح علاقة وطيدة بروسيا. ومالي هي من الدول الأولى في غربي أفريقيا والساحل الأفريقي، التي آمنت بالربيع الأفريقي وطبقته لما فيه مصلحة شعبها ومستقبله.
تكلّمت بإسهاب عن الرئيس الرمز سانكارا لأن هذا الشخص سبق زمانه بعشرات الأعوام، ليصبح الرمز لانقلاب الثوريين في أفريقيا، وخصوصاً في غربيها. بدأ الربيع الأفريقي من أفريقيا الوسطى إلى مالي إلى بوركينا فاسو إلى النيجر. يمكن للغرب أن يخدع بعض الشعوب بعض الوقت، لكنه لن يستطيع خداع كل الشعب كل الوقت. ودقت ساعة الوعي ونفض غبار السنين عن تلك الشعوب المستضعَفة، فلقد امتص الغرب وفرنسا خيرات أفريقيا عشرات الأعوام عبر طرائق متعددة.
بعد النيجر... الدور على من؟
بعد انقلاب النيجر، خريطة النفوذ ليست كما قبلها، فما كان يُعَد حدائق خلفية للفرنسيين، بات ملاعب للصين والروس وتركيا وإيران وغيرها. حلفاء روسيا، وهم طليعة الربيع الأفريقي، لن يتركوا قائد الانقلاب في النيجر وحيداً، ولو كلفهم الأمر حرباً مفتوحة. وتشاد تتحضر للانضمام إلى هذا الحلف، وستدخل الربيع عاجلاً أم آجلاً. لا شك في أن النيجر ستقفز من حضن فرنسا إلى حضن روسيا، أو لنقل سيكون لها حرية تقرير المصير، وقام المتظاهرون المؤيدون للانقلاب فيها برفع العلم الروسي وإحراق العلم الفرنسي.
خسرت فرنسا في وقت قصير ثلاث مستعمرات مهمة، وهذه المستعمرات تغذي فرنسا باليورانيوم والذهب واحتياطي البنك المركزي، فهي التي أجبرت، بسبب جبروتها، قادة بعض الدول الأفريقية (مستعمراتها) على أن يضعوا احتياطيات بلدانهم المالية في البنك المركزي الفرنسي بدلاً من أن يضعوها في البنك المركزي الوطني. وبالتالي، فإن العملة الفرنسية حافظت على وضعها، بينما تنحدر العملات الوطنية لتلك الدول باستمرار.
إن وقف تصدير اليورانيوم سيؤثر في إنتاج الكهرباء، ومنع تصدر الذهب، وسحب المال من البنك المركزي الفرنسي، أمر سيُضعف اقتصاد فرنسا.
خلاصة القول إن الربيع الأفريقي، أو الانقلابات العسكرية في تلك الدول، ليس المستهدف منها الرؤساء الأفارقة كأشخاص، أو الصراع على السلطة، بل المستهدف الحقيقي هو فرنسا والرؤساء الأفارقة الموالون لها.