الحركة الأسيرة وبن غفير.. بين محاولات الإذلال والعيش بكرامة

لن ينجح بن غفير في محاولاته، طالما هناك حركة أسيرة، موحّدة، منظّمة، وعلى جاهزية، للتصدي لهذه السياسات المدعومة من حكومته وأمنه الداخلي.

  • الحركة الأسيرة، وابن غفير بين محاولات الإذلال والعيش بكرامة
    الحركة الأسيرة، وابن غفير بين محاولات الإذلال والعيش بكرامة

كتلة بشرية هائلة، تجاوزت المليون أسير، الذين اكتووا بنار السجن والسجّان، منذ 1967 حتى هذه اللحظة مورست في حقهم كل أساليب التعذيب والقهر والإذلال، واستخدمت ضدهم كل ما تفتق عن العقلية السادية الصهيونية، من العزل، والتجويع، والتحقيق بأساليبه الإجرامية، والبوسطات وما فيها من أوجاع لا يحتملها بشر، ورغم كل هذا، وعبر هذا التاريخ الطويل لم تنجح إدارة السجون في إخضاع الأسرى، أو هزيمتهم، أو حتى النيل من وحدتهم وتفريقهم.

فهل ينجح بن غفير في تمرير قرارته بحق الأسرى؟ وهل يعرف شيئاً عن التاريخ النضالي للحركة الأسيرة؟

في المقابل، ما هي الأسباب والعوامل التي جعلت الأسرى يصمدون هذا الصمود الممتد أكثر من خمسين عاماً؟ لا بل حققوا إنجازات، تجعل بن غفير وغيره يستغربون، كيف لهؤلاء، المخرّبين، أن يعيشوا هذه الحياة في سجون الاحتلال.

لست هنا في معرض الحديث عن إنجازات الحركة الأسيرة، أو تاريخها النضالي، إنما لتسليط الضوء على هذه الروح الثورية، والقوة المعنوية، والوحدة الوطنية والمصيرية التي تتجسّد في الأسرى.

بن غفير يريد أن ينفي عن الأسرى صفة التمثيل، والاعتراف بالتنظيمات، وسحب كثير من الإنجازات التي حقّقها الأسرى بالعرق والدم والجوع، وصولاً إلى الحكم بالإعدام على بعض الأسرى الذين يقومون بعمليات فدائية. كل هذه القرارات التي ينادي بها بن غفير كانت موجودة، وما زالت نظرياً مسطرة في قانون إدارة السجون، والقوانين الإسرائيلية، ولكنها لم تستطع تطبيقها، لأنها واجهت حركة أسيرة منظمة، مبرمجة، موحّدة رفضت كل هذه القرارات.

في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، كان الأسرى الفلسطينيون، بالكاد يعيشون، سبعون أسيراً في الغرفة، لا يوجد أي شيء عندهم، حياة مأساوية، حاولت إدارة السجون تشغيل بعض الأسرى في صناعة الشوادر والمصفّحات لدوريات الجيش الإسرائيلي، ولكن الأسرى رفضوا ذلك. 

ومنذ ذلك الوقت قرّرت الحركة الأسيرة، أن تبدأ بخطواتها للعيش بكرامة، رافضة كل محاولات الإذلال والإخضاع. كان الإضراب المفتوح عن الطعام سنة 1982 والذي استشهد فيه ثلاثة من الأسرى، علي الجعفري، راسم حلاوة، عبد القادر أبو الفحم، في محاولة لإفشال الإضراب حيث تمت تغذيتهم عن طريق، الزوندا(التغذية القسرية).

لم يكن إضراب عام 82 هو الأول إنما سبقته خطوات وإضرابات أخرى تقدّمت الحركة الأسيرة باتجاه العيش بكرامة، ومسؤولية، واعتراف إدارة السجون، بالحركة الوطنية، والتمثيل، وعدم تجاوزها حتى أصبح يحسب لها ألف حساب.

وهكذا أصبحت الحركة الأسيرة تخوض إضراباً مفتوحاً عن الطعام كل أربع سنوات تقريباً، ولم تتوقف حالة الاشتباك والاستنفار والاحتجاج بين الإضراب والإضراب، إنما كانت على مدار اللحظة على خط التماس.

في سنوات التسعينيات ونتيجة لهذا الخطوات، حقّق الأسرى التلفاز، المروحة، البلاطة، الثلاجة، الراديو، تحسين الأكل، وإدخال الملابس، وإدخال مواد من الأهل في الزيارات مثل القهوة، الزيت، الميرمية والنعنع، الليمون. 

في انتفاضة الأقصى، كان في سجون الاحتلال، ما يقارب 11 ألف أسير، استطاع الأسرى أن يقوموا بتهريب أجهزة اتصال، لكل السجون وشنت إدارة السجون حملات من التفتيش والعزل والقمع لمنع هذه الظاهرة، من دون جدوى، وفرضت الحركة الأسيرة هذا الإنجاز عنوة على إدارة السجون، لتسلّم بتركيب أجهزة اتصال في بعض السجون.

كانت الحركة الأسيرة تمتلك الكثير من نقاط القوة وما زالت، ومنها أسلوب ما يعرف، بالفوضى الخلّاقة، ويأتي ذلك حينما تحاول إدارة السجون المس بكرامة الأسير من خلال، ضربه، أو شتمه أو إهانته، أو تفتيش النساء والأطفال تفتيشاً مهيناً، يعلن الأسرى، حلّ التنظيم، أي أنه لا يوجد في هذه اللحظات من يمثل الأسرى، وغالباً ما يتقدّم أحد أو مجموعة من الأسرى ليحسم المعركة من خلال طعن أحد السجانين، أو حرق الغرف أو القسم في رسالة مفادها، أن الأسرى جاهزون للاستشهاد إذا مُسَت كرامتهم.

هذا الفعل تكرّر عشرات المرات لم يكن آخرها، الأسير إسلام وشاحي، عام 2019 حيث قام بعملية طعن لأحد ضباط إدارة السجون أنهى فيها الهجمة المسعورة التي ترأسها وزير الأمن الداخلي، أردان، وحرق القسم 6 في سجن النقب على أيدي أسرى الجهاد الإسلامي عام 2021.

بعد عملية نفق الحرية البطولية، حيث أرادت إدارة السجون الانقضاض على إرث الحركة الأسيرة، واعتبرت ذلك فرصة كبيرة لإعادة الأسرى، إلى سنوات السبعينيات من القرن الماضي فجاءت عملية حرق السفن، الغرف، ضمن سلسلة خطوات، نظمتها الحركة الأسيرة، تحت قيادة لجنة الطوارئ التي ضمت كل الفصائل، ولوّحت بالإضراب المفتوح عن الطعام، مما جعل إدارة السجون تتراجع عن محاولاتها البائسة.

الحركة الأسيرة الآن ورغم كل المظاهر السلبية التي من الممكن أن يلاحظها المراقب، وهذا الأمر طبيعي فلا بد أن تبرز نقاط ضعف في حياتهم ولكن على صعيد المواجهة مع الإدارة والعيش بكرامة، ما زالت تتفوق على السجان. وتمتلك الكثير من العوامل لجعل بن غفير وعصابته يتقهقرون مهزومين. لم يكن التعليم الجامعي، والاتصال الهاتفي، وتهريب النطف، سفراء الحرية، آخر إنجازات الحركة الأسيرة، بل حفاظها على هذا الإرث والتاريخ ربما يعتبر من أهم وأكبر الإنجازات التي تعيشها الحركة الأسيرة.

لن ينجح بن غفير في محاولاته، طالما هناك حركة أسيرة، موحّدة، منظّمة، وعلى جاهزية، للتصدي لهذه السياسات المدعومة من حكومته وأمنه الداخلي.

بقي أن نختم هذا المقال بالقول إن الحركة الأسيرة ليست مجموعة من الأفراد الموزّعين على عدة سجون أو أقسام، كما يحلو للبعض أن يصفها إنما هي حركة تمثل شعباً يناضل ويدافع عن كرامته، منذ مئة عام، وقد شكّلت نموذجاً لكل الحركات السياسية الأسيرة في العالم.