التفجير المتزامن وقدرة المقاومة على الردع والاستهدافات المتزامنة
لقد أسقطت جريمة التفجير المتزامن لأجهزة الاتصال قواعد الاشتباك التي تعرّضت قبل الجريمة للكثير من الانتكاسات، ولم تصمد بالرغم من المحاولات الخارجية والداخلية للعودة إليها، أو ضبط توسيعها، بحيث لا ينزلق الجميع إلى حرب شاملة.
وقع المحظور، ولم تعد هناك حواجز تفصل بين الخطوط، حتى قواعد الاشتباك التي يحرص الجميع على التغنّي بها سقطت، وصار اللعب على المكشوف، وفشلت أنواع الخداع في لجم التدهور، بالرغم من التمايز بين الأطراف، بحيث يخوض أحدهما صراعاً واضحاً للخروج من خيباته، وأهدافه العصية على التحقّق، والدخول في مغامرات قد تسمح له بإعادة التوازن المستحيل، لكيان شعر للمرة الأولى بتهديد حقيقي وعملي لوجوده، مرتكزاً على جمهور متعطّش لإنجاز انتصارات تضمن له سياجاً آمناً مزدوجاً، من غلاف غزة إلى "كريات شمونة" (بلدة الخالصة الفلسطينية).
وهي انتصارات ضرورية لمحو الطوفان التاريخي من ذاكرته، والبدء بالتأسيس لـ "دولة" حديدية أكثر دموية، وأوسع استفزازاً لأيّ إدارة أميركية تحاول التخفيف من الدعم للكيان القلق، والتي تحاول بدورها أن توازن بين دعمها الدائم والمطلق لـ "إسرائيل"، والحفاظ على مصالحها الواسعة في المنطقة، وتجنّب فشل سياساتها في متابعة عملية التطبيع بين "إسرائيل" والدول العربية وفي مقدّمتها السعودية، بعد نجاحها في عقد اتفاقات عُرفت "باتفاقيات أبراهام" بين "إسرائيل" والإمارات والبحرين والمغرب والسودان (وقّعت عام 2020)، التي لن تصمد طويلاً في ظلّ الهمجية الإسرائيلية وتوسّع الاستيطان في الضفة الغربية، والرفض الشعبي لها.
في توقيت صعب، وعلى حافة توسيع الحرب الإسرائيلية على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، حصل الحادث الأمني الأصعب في تلك الحرب، التي وقعت في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى (8 تشرين الأول/أكتوبر 2023)، بتفجير متزامن لأجهزة اتصال تستخدمها المقاومة، وسقوط العديد من الشهداء وأكثر من 4000 جريح، وهي عملية استخباراتية معقّدة، تمّ التحضير لها مسبقاً، بحيث ترجّح الفرضيّات زرع شحنة متفجّرات في الشحنة الأخيرة للمقاومة (منذ 5 أشهر)، على أن يقوم العدو الإسرائيلي بتفجيرها في التوقيت الذي يراه يخدم أهداف الحرب.
هذا أحدث إرباكاً كبيراً في صفوف المقاومة، واستنزافاً كبيراً للقطاع الصحي في لبنان، بحيث إنّ المشهد يظهر قيام العدو بجريمة موصوفة (توصيف الرئيس نبيه بري) شهدها العالم، استهدفت عناصر أمنية مدنية وعسكرية للمقاومة، لكنها حصلت في أماكن مختلفة يوجد فيها مدنيون، وهذا حدث خطير يخالف مبادئ القانون الدولي الإنساني، وأهمها التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وتحديد الضمانات اللازمة للحد من آثار النزاعات المسلحة والعمليات الحربية على الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال، وفرض قيود على وسائل الحرب وأساليبها.
هذا بالإضافة إلى اتفاقيات جنيف الموقّعة عام 1949، والبروتوكولات الإضافية الموقّعة عام 1977، والتي انتهكتها "إسرائيل"، أثناء الحرب أيضاً، وقبل حصول جريمة تفجير أجهزة الاتصال، وخصوصاً المادة الـ 15 من البروتوكول الإضافي الأول والتي تنصّ على أنّ احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية المدنيين أمر واجب، وسبب توقيع تلك المعاهدات هو الحدّ من وحشية الحرب وحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال.
لقد أسقطت جريمة التفجير المتزامن لأجهزة الاتصال قواعد الاشتباك التي تعرّضت قبل الجريمة للكثير من الانتكاسات، ولم تصمد بالرغم من المحاولات الخارجية والداخلية للعودة إليها، أو ضبط توسيعها، بحيث لا ينزلق الجميع إلى حرب شاملة، تهدّد مصالح الجميع.
لقد أثبتت جريمة التفجير الواسعة أنّ أساليب الحرب تبدّلت بشكل جوهريّ، وأنّ التكنولوجيا التي يتميّز بها العدو، والإمدادات التي تصل إليه من الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، قادرة على تمكينه من التفوّق التكنولوجي في الحروب التي يخوضها، وهذا الأمر بدا جلياً في المواجهات اليومية للحرب في الجنوب، وعلى معظم المساحة الجغرافية للبنان، بحيث إنّ المقاومة بالرغم من الإجراءات التي اتخذتها على صعيد استخدام وسائل الاتصال وتحديثها، إلّا أنّ "إسرائيل" كانت دائماً تتقدّم بخطوة عن المقاومة، التي لم تتوقّف عن تنويع تلك الوسائل، لتجنّب أجهزة التجسس التي شكّلت المسيّرات سلاحها الرئيسي، وكانت بعض الاستهدافات مقلقة ومحيّرة لأجهزة المقاومة، وهناك عمليات استهداف حصلت لقياديّين لم يستخدموا أيّ نوع من الوسائل المعرّضة للاختراق.
الآن وبعد حصول العملية الأمنية المعقّدة، والخرق الاستخباراتي غير المسبوق، يمكن للمقاومة الإجابة عن الأسئلة المحيّرة التي كانت تقلقها، ويمكن تفسير قيام العدو بغارات جوية استباقية لعملية يوم الأربعين (25 آب/أغسطس 2024)، التي استهدفت قاعدة الاستخبارات الإسرائيلية التابعة للوحدة 8200 في غليلوت في وسط فلسطين المحتلة، رداً على اغتيال العدو للقائد فؤاد شكر (30 تموز/يوليو 2024)، خصوصاً أنّ صحيفة "وول ستريت جورنال" تحدّثت عن اختراق شبكة الاتصالات الداخلية لحزب الله.
هذا بالإضافة إلى أنه من المفترض أن تكون عملية اغتيال القيادي فؤاد شكر بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، لأنّ الشخصية المستهدفة تشكّل هدفاً مشتركاً بين "تل أبيب" وواشنطن، كون فؤاد شكر ساعد في التخطيط في قتل 241 جندياً أميركياً في ثكنات مشاة البحرية الأميركية في بيروت (23 تشرين الأول/أكتوبر 1983)، وأنه مدرج على قائمة العقوبات الأميركية، مع أنّ المقاومة حينها نفت أيّ اختراق لشبكة اتصالاتها الداخلية.
نحن الآن في لحظة استراتيجية ومصيرية في الحرب مع العدو الإسرائيلي، المدجّج بالتكنولوجيا والأسلحة المتطوّرة، التي تساهم واشنطن في دعم تفوّق العدو، ومساعدته لوجستياً وتكنولوجياً واستخباراتياً للتقليل من خسائره، وإحباط العديد من العمليات التي تقوم بها المقاومة، وتحديداً في اعتراض المسيّرات والصواريخ قبل الوصول إلى أهدافها، بالرغم من نجاح المقاومة في اختراق منصات الاعتراض، والوصول إلى أهداف حيوية، ومنها إصابة مقرّ الوحدة 8200، وقيام العدو حتى اللحظة في التعتيم على الخسائر والإصابات التي حقّقتها المقاومة.
ما المطلوب من المقاومة؟ وما هي الخطوة التالية للسيد حسن نصر الله؟ وما هو الردّ على الجريمة الخطيرة التي طالت الأمنيين والمدنيين على مساحة جغرافية واسعة (طالت أجهزة اتصال المقاومة في سوريا)؟ وما هي إجراءات المقاومة في ظلّ هذا الاختراق الأمني وسط الحرب المفتوحة مع العدو؟ وهل هناك قواعد اشتباك يجب الالتزام بها؟ وماذا عن خطاب السيد حسن نصر الله بعد عملية يوم الأربعين في تجنّب المدنيين الإسرائيليين؟ وهل فعلاً إنّ اعتراف المقاومة بالعملية الاستباقية قبل العملية دليل على القلق من التفوّق التكنولوجي للعدو؟ وماذا عن الشحنات الأخرى لأجهزة اتصال المقاومة، طالما العدو انتظر ما بين 3 أو 5 أشهر للقيام بعملية التفجير المتزامن لأجهزة الاتصال؟
وهل هناك أجهزة لدى المقاومة مفخّخة مسبقاً عبر الشركة المصنّعة أو تعديل ما بعد التصنيع والتخزين؟ وما الذي يمنع أن تكون هناك أجهزة قريبة من سماحة السيد نصر الله تنتظر اللحظة الحاسمة لتفجيرها؟ وما هي صحة المعلومات من أنّ "إسرائيل" اضطرت لتفجير أجهزة اتصال المقاومة بعد اكتشاف المقاومة للاختراق، وأنّ لحظة التفجير كانت أساساً معدّة للقيام بها أثناء وخلال الحرب الشاملة التي يمكن أن تقع، بهدف إرباك المقاومة أثناء تلك الحرب، وتعطيل الاتصال بين تشكيلات المقاومة؟ وهل هناك قلق من استخدام أي شبكة أو أجهزة اتصال موجودة حالياً لدى المقاومة؟
هناك استحالة في الإجابة عن جميع تلك التساؤلات، لكنها أسئلة مشروعة، وهي برسم قيادة المقاومة، التي تدرك حجم الجريمة وتداعياتها الشاملة، ومدى الإرباك الذي يحتاج إلى إجراءات سريعة للتخفيف من آثاره، وهي قادرة على فعل ذلك، في ظلّ الالتفاف الشعبي والرسمي مع المقاومة، وتراجع حدة الانقسامات الداخلية ولو مؤقتاً، وهي لحظة يجب استغلالها لإعادة التوازن لهيكليتها، عبر الردّ السريع والموجع للعدو، وتجاوز كلّ الاعتبارات التي كانت تمنع القيام بردّ مؤلم، يردع العدو، ويعيد توزان الرعب، وإعادة تفعيل معادلة استهداف المدنيين الإٍسرائيليين مقابل استهداف المدنيين اللبنانيين.
هذا مع الإشارة إلى استخدام أسلوب العمليات المتزامنة الذي اتبع في الثمانينيات في ظلّ قيادة محمد سعد وخليل جرادي للمقاومة، وساهم في اندحار الاحتلال حتى جنوب الليطاني عام 1985، وتبنّته قيادة المقاومة لاحقاً في عملياتها وصولاً إلى التحرير عام 2000، وتجديده الآن في هذه اللحظة المصيرية من المواجهة، عبر الاستهداف المتزامن للمراكز العسكرية، وإحداث إرباك في خطوط الإمداد لدى العدو.
هناك حاجة لإعادة ترتيب البيت المقاوم، وتحصينه من الاختراقات الأمنية والاستخباراتية، في ظلّ المجموعات التجسسية الناشطة قبل الحرب وخلالها، والقيام بعملية واسعة لتطهير أي خروقات، وخصوصاً وسائل وأجهزة الاتصال الخاصة بالمقاومة، التي تشكّل ركناً أساسياً في خوض الحرب مع العدو الإسرائيلي، المتفوّق تكنولوجياً، لكنّ المقاومة قادرة على استخدام وسائل حديثة موثوقة، لإحباط أيّ خرق أمني لأجهزتها ومواقعها، وقد حصلت اختراقات عديدة سابقاً وعلى مستوى رفيع، تمكّنت المقاومة من تجاوز تداعياتها بشكل سريع، أعاد لها زمام المبادرة.
هناك دعوة صادقة لسماحة السيد حسن نصر الله، لقيادة عملية سريعة داخلية وخارجية، لوقف تداعيات الاختراق الأمني، واستخدام حكمته وخبرته وتجاربه، لإحداث التغيير المطلوب في هيكلية المقاومة، والقيام باختبارات متواصلة لكلّ وسائل الاتصال لدى المقاومة للتأكّد من عدم اختراقها، كما الحذر من مورد تلك الأجهزة وإعادة فحصها، كوننا الآن في ظلّ البرمجيات الخبيثة، القادرة على خرق الأجهزة الخالية من أيّ عمل استخباراتي مسبق، بحيث إن الحرب التكنولوجية وصلت إلى حدود خطيرة، وباتت تركّز على تحقيق الهدف من أيّ عملية عسكرية أو أمنية، ولم تعد تقيم أيّ وزن للاعتبارات الإنسانية.