الانتخابات الروسية (رسائل متبادلة)
في عهد بوتين، شهدت السياسة الخارجية الروسية انتعاشاً يتضمّن عناصر من الترميم، لقد عادت روسيا إلى الساحة العالمية، سعياً لإضفاء الشرعية على دورها الجديد واستعراض قوتها من خلال الوسائل الاقتصادية.
يعدّ الاستقرار السياسي متغيّراً حاسماً في مسار التنمية في أي بلد، حيث ارتبط بمستويات النمو الاقتصادي وجاء نتيجة للتنمية الاقتصادية مع مرور الوقت.
تشير الأبحاث إلى أن عدم الاستقرار السياسي يؤثر سلباً على الاقتصاد من خلال قناتين رئيسيتين. أولاً، إنه يعطّل أنشطة السوق وعلاقات العمل، مما يؤثر بشكل مباشر على الإنتاجية، ثانياً، تميل فترات عدم الاستقرار السياسي إلى انخفاض مستويات الاستثمار، ولذلك فإن الاستقرار يعني ضمناً وجود بيئة سياسية يمكن التنبؤ بها وقادرة على جذب الاستثمار المحلي والدولي.
ولعل أكثر مظهر يوضح وجود هذا الاستقرار هو الالتزام بالانتخابات بمختلف أشكالها (رئاسية ـــــ برلمانية ـــــ بلدية.. إلخ).
لذلك فإن الرد على السؤال الذي يطرحه البعض حول جدوى إقامة الانتخابات الروسية في هذا الظرف الروسي الصعب يبدو بديهياً، كون أن الانتخابات تخلق حالة من الاستقرار السياسي.
ولعل أهمية هذه الانتخابات تتجلى في أن الاتحاد الروسي في طور مواجهتين على مستويين، الأول داخلي وعلى وجه التحديد مع المناطق المنضمّة حديثاً، والثاني خارجي فيما روسيا اليوم في حالة حرب.
أولاً.. المتانة الداخلية (الجبهة الأولى للصمود):
الجميع متحد في الشدائد:
يبدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فترة رئاسية جديدة مدتها ست سنوات أخرى، وهي الولاية الخامسة له، بعد حصوله على أكثر من 87 في المئة من أصوات الناخبين الروس في الانتخابات.
ويفسّر الخبراء هذه الأرقام القياسية بظاهرة "الوحدة حول العلم" عندما يتجمّع سكان دولة مثل روسيا حول الحكومة الحالية ـــــ وهي اليوم أحد أطراف نزاع عسكري ـــــ يغيّرون وجه العالم وليس روسيا فقط، وذلك كما يوضح عالم السياسة كيريل أفريانوف.
وأشار أفريانوف إلى أنّ الأغلبية الساحقة من السكان مقتنعة بأن الوقت الحالي ليس هو الوقت المناسب للتردّد بشأن القضايا السياسية، وليس الوقت المناسب للانقسام بين الأحزاب السياسية، ولكنه الوقت المناسب للوحدة.
المناطق الجديدة "إقبال غير متوقّع"
أكد الرئيس بوتين أن سكان المناطق الجديدة يبحثون عن الحماية ويجب توفيرها لهم، واعترف بأنه لم يتوقّع مثل هذا المستوى العالي من الدعم من سكان المناطق الجديدة في البلاد، وذلك خلال زيارة بوتين لمقره الانتخابي في جوستيني دفور.
واستكمل معلّقاً "أما بالنسبة للنتائج في دونباس ونوفوروسيا وشبه جزيرة القرم، بالمناسبة، من حيث المبدأ، اعتقدت أنها ستكون جيدة وهامة وإيجابية، ولكن بصراحة، لم أتوقّع حتى أنها ستكون هكذا.
ووفقاً له، فإن هذا يدل على شيئين رئيسيين. فأولاً، تتحرّك روسيا في الاتجاه الصحيح، والناس يشعرون بالامتنان للبلاد على القرارات التي اتخذتها. وثانياً، يتوقّع سكان المناطق الجديدة الحماية والتنمية في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الاجتماعية والاقتصادية.
ثانياً.. ردود فعل دولية (استمرار النهج القديم)
في عهد الرئيس بوتين، شهدت السياسة الخارجية الروسية انتعاشاً يتضمّن عناصر من الترميم والثورة، لقد عادت روسيا إلى الساحة العالمية، سعياً لإضفاء الشرعية على دورها الجديد واستعراض قوتها من خلال الوسائل الاقتصادية، بدلاً من الوسائل السياسية والعسكرية التقليدية.
فقد أحيت الهوية الوطنية التي كانت سائدة في فترة ما قبل الثورة، وشددت على المسار الفريد الذي سلكته روسيا نحو الحداثة. وتدهورت العلاقات مع الغرب مع طعن روسيا في الاتفاقيات التي أبرمت في التسعينيات عندما كانت ضعيفة، وفي الواقع فإن إرث بوتين في رابطة الدول المستقلة مختلط؛ مع مكاسب في آسيا الوسطى وخسائر في الدول الغربية المستقلة حديثاً وجنوب القوقاز.
ولم تلبث الانتخابات الروسية على الانتهاء وحتى قبل الإعلان النهائي عن النتيجة، إلا وهطلت زخات من التصريحات للاعبين الدوليين الأساسيين منهم والفرعيين حول فوز الرئيس بوتين.
وكان رد فعل الناس في الخارج مختلفاً تمام الاختلاف إزاء فوز فلاديمير بوتن في الانتخابات الرئاسية، التي جرت في مناطق روسيا كافة في الفترة من 15 إلى 17 آذار/مارس. وذلك حسبما تحدّث فلاديمير بروتر، الخبير في المعهد الدولي للدراسات الإنسانية والسياسية، عن ذلك في حوار مع إذاعة كومسومولسكايا برافدا، وأوضح أن "الأعداء يتفاعلون بطرق عدائية، ويتفاعل الأصدقاء بطرق ودية، وتتفاعل الدول المحايدة بطرق محايدة".
فمن جهة صرّح عدد من الدول المرحّبة بالانتخابات كان الأبرز الشريك الصيني، حيث صرّح الرئيس الصيني شي جين بينغ نقلاً عن وكالة أنباء شينهوا موجّهاً الكلام للرئيس بوتين "إن إعادة انتخابكم هي دليل كامل على دعم الشعب الروسي لكم، وأعتقد أنه في ظل قيادتكم، ستتمكّن روسيا بالتأكيد من تحقيق إنجازات أكبر في التنمية الوطنية والبناء"، واستكمل "إن الصين تولي أهمية كبيرة لتنمية العلاقات الصينية الروسية، وهي مستعدة للحفاظ على اتصالات وثيقة مع روسيا لتعزيز التنمية المستدامة والصحية والمستقرة والمتعمّقة للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وروسيا."، ونقلاً عن وكالة الأنباء المركزية الكورية قال زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون إنه سيتعاون مع الرئيس بوتين بقوة، مشدداً على عمق العلاقة بين روسيا وكوريا.
ومن جهة أخرى في المعسكر المناوئ لروسيا وسياساتها الخارجية، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض ما يلي "من الواضح أن الانتخابات ليست حرة ولا نزيهة بالنظر إلى الطريقة التي قام بها السيد بوتين بسجن المعارضين السياسيين ومنع الآخرين من الترشح ضده".
أما رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل فرأى أن الانتخابات في روسيا لم تكن حرة ونزيهة واستندت إلى القمع والترهيب، وفي السياق ذاته وجد المتحدث باسم الحكومة الألمانية أن النتيجة كانت محددة سلفاً، وبهذا فإن المستشار الألماني أولاف شولتس لن يهنّئ بوتين على إعادة انتخابه.
وبالنسبة للدولتين الحدوديتين ليتوانيا وبولندا، فقد أشارت كلا الدولتين في بيان رسمي من وزارتي الخارجية بأن الانتخابات جرت في ظروف من القمع وانعدام الحرية.
ولم تخلُ المواقف الرسمية الغربية من التعريج على أوكرانيا عند الحديث عن الانتخابات الروسية، فأشار بيان وزارة الخارجية الفرنسية إلى أن فرنسا لن تعترف بالانتخابات، وخصوصاً تلك التي جرت في المناطق التي سيطرت عليها روسيا من أوكرانيا، على حد قولها، معتبرة أن هذا انتهاك للقانون الدولي، وبالرؤية نفسها قال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون ما يلي "أغلقت صناديق الاقتراع في روسيا بعد إجراء انتخابات غير قانونية على الأراضي الأوكرانية، وانعدام الاختيار أمام الناخبين وعدم وجود مراقبة مستقلة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا".
إن المرحلة المقبلة أغلب الظن لن تختلف عن سلفها، لأن الخارطة السياسية الروسية مرسومة منذ إرساء الرئيس بوتين لأسس الثقل الروسي الدولي، ففي خطابه السنوي أمام المجلس التشريعي الروسي في عام 2005، وصف بوتين اختفاء الاتحاد السوفياتي بأنه "كارثة جيوسياسية كبرى"، وتجسّد هذه العبارة بدقة الشعور بالخسارة الذي يربطه العديد من الروس بعصر ما بعد الاتحاد السوفياتي والأمل في العودة للماضي.
ختاماً.. فإنّ الشخصية الروسية المتمثّلة بالرئيس بوتين قد لا تكترث إلى إشارات معينة للخارج بقدر ما تكترث لتمتين مكتسباتها وتحصين الطريق نحو مكتسبات جديدة، وإذا كانت الانتخابات حرة أم لا فهي جرت ومدّدت للعمل الذي تجريه القيادة الروسية، ولا بدّ الآن من التفرّغ للوضع الاقتصادي الذي سيدعّم أصلاً بالحالة التي ستخلق بعد الانتخابات، وهي الاستقرار السياسي المنشود، الذي سيتكامل مع عوامل أخرى لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.