الاتفاق النووي الإيراني: افتراق ونهاية
متابعة وقراءة الوقائع الجارية والتصريحات والمواقف المعلنة تظهر أن ثمة نقاط افتراق حقيقية بعيدة عما يعلن ويروّج أميركياً وأوروبياً.
أضحى الملف النووي الإيراني إحدى أبرز الأزمات على الساحة الدولية، بما خلفه من أجواء حرجة وحاسمة بالنسبة إلى معظم الأطراف الدولية المعينة، ولإثارته صراعاً حاداً بين إرادات مختلف الأطراف، ولاحتوائه على قدر كبير من التعقيد والتشابك في الأسباب والدوافع المؤدية إليه، ولارتباطه بتفاعلات العلاقة الأميركية-الإيرانية والأوروبية-الإيرانية، ولتماسّه المباشر بقضايا منع الانتشار النووي على الساحة الدولية، وخصوصاً في فترة ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001.
شغلت قضية الانتشار النووي حيّزاً كبيراً من اهتمامات الولايات المتحدة مركّزة على هوية الدول الساعية لامتلاك التقنية النووية، وطبيعة نظام الحكم القائم ومدى انصياعها للسياسات الأميركية أو مقاومتها ووممانعتها بذريعة الحفاظ على الأمن القومي الأميركي، فلجأت إلى سياسات تمنع وتحدّ من هذا الانتشار، الذي تعد "خطراً" عليها وعلى العالم بأسره. ومن هذا المنطلق ظلت الإدارات الأميركية المتعاقبة تتبنّى موقفاً تقليدياً رافضاً ومعادياً للبرنامج النووي الإيراني، ولحق طهران في امتلاك الطاقة النووية كما هي الحال في عدد من الدول في العالم.
هذا العداء الأميركي يمثّل امتداداً للموقف العدائي الذي تتبنّاه الولايات المتحدة تجاه إيران منذ قيام الثورة الإسلامية فيها عام 1979، ثم ازدادت حدة هذا العداء منذ ذلك الحين وحتى وقتنا الراهن، على الرغم من توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة أو ما يعرف بالاتفاق النووي الإيراني عام 2015، الذي انسحب منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2018، مطلقاً العنان لسياسة الضغوط القصوى المتمثّلة في الحصار والعقوبات والإجراءات لتضيق الخناق على إيران لإحضارها إلى طاولة المفاوضات بشروط أميركية قاسية تجسّدت في خطة وزير الخارجية الأميركي السابق مايكل بومبيو التي عدت الطلقة الافتتاحية في مسار إدارة ترامب في تضييق الخناق على طهران.
بعيد خسارة ترامب في الانتخابات الأميركية وفوز جو بايدن فيها أعلن الأخير عزمه على الانخراط مجدّداً في المفاوضات غير المباشرة مع طهران للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، بدت الدبلوماسية المتجدّدة واعدة في البدء، ولكن، بعد محادثات مطوّلة استمرت أكثر من عام، ظهر أن إدارة بايدن أعجز عن إنجاز هذه الخطوة المهمة في ظل إدمانها الإخفاق داخلياً وخارجياً، حيث يظهر أن هذه الإدارة عادت لتقارب هذا الملف بعين ترامب وسياسته المتطرفة، إذ أعلن عدد من مساعدي الرئيس بايدن أن ليس هناك خطط حالياً لرفع حرس الثورة الإيراني عن قوائم الإرهاب الأميركية. ووفق رؤيتهم، على طهران أن تعالج نتائج مخاوف الولايات المتحدة خارج إطار الاتفاق المتعثّر بشأن ملفها النووي.
الأوروبيون من جهتهم، الذين يعتبرون الاتفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015 واحداً من أبرز إنجازاتهم الدبلوماسية في مقاربة ملفات قضايا الانتشار النووي المعقّدة في القرن الحادي والعشرين، ذهبوا إلى ترويج إمكانية تجاوز العقبات التي تحول دون الوصول إلى خواتيم سارة تفضي إلى توقيع إتفاق نووي آخر في فينيا، مدفوعين بحاجاتهم إلى النفط والغاز الإيراني لتعويض النفط والغاز الروسي على خلفية الحرب الدائرة في شرقي أوروبا، من خلال الحملة الإعلامية الكبيرة التي رافقت زيارة نائب مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إنريكي مورا المكلّف تنسيق شؤون مفاوضات فيينا النووية، الذي أعلن أن هناك فرصة أمام إيران تتمثّل في توقيع اتفاقٍ جديد من دون حذف حرس الثورة من قائمة المنظمات الإرهابية الأميركية، حيث من الممكن وضع هذه المسألة مستقبلاً على الأجندة الأميركية الإيرانية، إلا أن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أعاد الأمور إلى نصابها عندما قال تعليقاً على زيارة مورا لطهران: إن "الإتفاق الجيد والجدير بالثقة في متناول اليد، إذا ما اتخذت أميركا قرارها السياسي والتزمت تعهداتها".
رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي قال بدوره: إن مفاوضات فيينا حول جهود إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015 الذي انسحبت منه الولايات المتحدة بصورة أحادية عام 2018 قد انتهت، مشيراً إلى أن واشنطن تتحمّل مسؤولية المشكلات التي تعترض التوصّل إلى نهاية سارة لمسار فينيا، قائلاً: إن "عليها أن تحلّها بنفسها".
وعليه فإن متابعة وقراءة الوقائع الجارية والتصريحات والمواقف المعلنة تظهر أن ثمة نقاط افتراق حقيقية بعيدة عما يعلن ويروّج أميركياً وأوروبياً تتجاوز مسألة رفع حرس الثورة عن قائمة المنظمات الإرهابية باعتبارها العقدة الحقيقية، إذ إن الإشكال الحقيقي الذي يعترض مسار مفاوضات فينيا للتوصل إلى اتفاق حيال البرنامج النووي الإيراني أبعد من ذلك، لتشعبه وتعدّده في النقاط التالية:
أولاً: لا تريد إيران اتفاقاً على شاكلة اتفاق عام 2015 يسهل الانسحاب منه وتمزيقه، إنما اتفاقاً بضمانات من نواب الشعب الأميركي، أي من الكونغرس بحيث يكون من شبه المستحيل على أي رئيس أو إدارة قائمة أو مقبلة أن تلغيه بجرة قلم.
ثانياً: أبرزت الحرب الروسية-الأطلسية في أوكرانيا مكانة إيران في سوق الطاقة العالمية، باعتبارها واحدة من الدول التي يمكن الاعتماد عليها في تعديل التوازن، الذي اختل بفعل ما يجري في شرقي أوروبا، وفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا. لذا أوروبا في مأزق وكذلك واشنطن التي تتخبّط في أزماتها الداخلية، ومعهما حلف الناتو، ولا تملك بروكسل وواشنطن رفاهية فتح حرب أو مواجهة عسكرية مع طهران في هذا التوقيت، فضلاً عن أن إيران ماضية في كسر العقوبات الأميركية عليها من خلال توقيع عقود جديد لتوريد النفط والغاز الإيراني بعشرات المليارات من الدولارات مع دول مختلفة متعطشة إلى الطاقة.
ثالثاً: ثمة وقائع جارية هنا في الداخل الأميركي تظهر غلبة إرادة الأمة على إرادة الإدارة. إرادة الأمة هذه يعبر عنها عدد من المشرّعين الأميركيين، فهذا مارك ربيو، الجمهوري ونائب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ يرى أن الاتفاق النووي فات أوانه فعلاً، لأن لدى إيران الخبرات العملية والعلمية لإنتاج اليوارنيوم وتخصيبه وتصنيع أجهزة الطرد المركزي الحديثة ذات الإنتاجية العالية من نوع IR6. عضو جمهوري آخر في الكونغرس الأميركي هو غوش هاولي يرى أن الاتفاق مع إيران، يعني، حال توقيعه، أن تصنع واشنطن عدواً قطبياً آخر أشبه بروسيا والصين.
وفي السياق، نظم الجمهوريون في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب مؤتمراً صحافياً للتنديد بما وصفوه بصفقة بايدن الإيرانية، إذ قال عضو الكونغرس، آندي بار، إن إستراتيجية الضغوط القصوى التي اتّبعها ترامب كانت ناجحة، وإن محاولة بايدن الحالية ترقى إلى "صفقة معيبة" لا يمكن المضي قدماً فيها. بالنسبة إلى بار وزملائه، فإن اتفاق عام 2015 معيب في عملية التفاوض، وفي جوهره، ومعيب في البروتوكولات المرفقة، وفقًا لما ذكره بار.
كذلك أرسل 21 مشرعاً ديمقراطياً وجمهورياً بقيادة الديمقراطيين، جوش غوتهايمر، وإلين لوريا، والجمهوري توم ريد، برسالة إلى الرئيس بايدن مفادها أنهم سيعارضون أي اتفاق نووي مع إيران، طارحين أكثر من عشرة أسئلة عن أي اتفاق محتمل مع إيران، بدءاً بإمكان إن كانت روسيا ستكسب أي فوائد اقتصادية من الصفقة، إلى مقدار الأموال التي ستحصل عليها طهران فور توقيع الاتفاق، حتى إن السناتور بوب مينينديز، الذي يشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، والذي عارض انسحاب ترامب من الصفقة، انتقد المفاوضات الجارية في فيينا، قائلاً: إن واشنطن تتشبث بالإتفاق من أجل "الحنين إلى الماضي".
وأصدر أعضاء الحزب الجمهوري (50 عضواً) في مجلس الشيوخ الأميركي بياناً أعلنوا فيه أنهم سيحظرون وينقضون أي اتفاق جديد مع إيران، من شأنه أن يضعف العقوبات ويفرض قيوداً أقل على برنامج إيران النووي. إرادة الأمة هذه تتمدّد وتتوسّع نحو الديمقراطيين مطيحة إرادة إدارة بايدن للوصول بمسار فينيا إلى إتفاق حيال البرنامج النووي الإيراني.
رابعاً: نجاح اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية في حشد عدد كبير من المشرّعين الأميركيين إلى جانبه للضغط على إدارة بايدن، ومنعها من التوصل إلى اتفاق آخر حيال البرنامج النووي الإيراني، إذ لو حصل هذا الاتفاق فسيؤدي إلى الإفراج عن عشرات المليارات من الدولارات الإيرانية المحتجزة في المصارف الأميركية، ويتيح لطهران تالياً مضاعفة نجاحاتها وإنجازاتها داخلياً، وتزايد نفوذها خارجياً في مقابل إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة، ما يعني عملياً تفاقم المخاطر الوجودية على الكيان الصهيوني بفعل ذلك. ويلتقي كذلك ضغط اللوبي الصهيوني في واشنطن مع الضغوط التي يمارسها عدد من الدول الخليجية، التي باتت ترى في الكيان الصهيوني حليفاً طبيعياً في مواجهة الخطر الإيراني، لذا يضغط كل هؤلاء على إدارة بايدن في اتجاه إعادة تفعيل سياسة الضغوط القصوى التي انتهجها ترامب من خلال استمرار الحصار الخانق والعقوبات الاقتصادية والعمليات السرية المختلفة، والتهديد بقصف المنشآت النووية الإيرانية، ويبرز في هذا المجال التنسيق الكامل بين الجانبين الصهيوني والإماراتي في الضغط على إدارة بايدن والكونغرس الأميركي لصوغ إستراتيجية أمنية للشرق الأوسط ليكون شركاء واشنطن في مأمن من "العدوان الخارجي"، وللعمل معهم لمواجهة "تهديدات" إيران.
إيران تتقدّم نووياً بسرعة كبيرة وتحقّق كثيراً من الإنجازات في هذا المضمار على الرغم من الحصار والعقوبات المفروضة عليها، وعلى الرغم من الحرب غير المعلنة التي يشنها عليها الكيان الصهيوني بغطاء من الولايات المتحدة، وبدعم من بعض دول الخليج، وهي غير آبهة بقرارات الوكالة الدولية للطاقة النووية وتقاريرها، وهي أكثر جرأة منها في أي وقت مضى، فحقها في الطاقة النووية حق مشروع كفلته المعاهدات والاتفاقيات والمواثيق ذات الصلة، وهي تدرك وزنها وأهميتها في المنطقة، وتدرك حاجة الأوروبيين إليها الواقعين بين المطرقة الروسية والسندان الأميركي. أوروبا المقبلة على برد صعب آثرت السير خلف المقاربة الأميركية المتطرفة للبرنامج النووي الإيراني، بتجاوزها العقبات الحقيقية للوصول إلى اتفاق متماسك، أوروبا ستدفع في المدى المنظور ثمناً باهظاً كما دفعته بالأمس عندما تخلّفت وتخلّت عن مقاربتها المستقلة في التعامل مع هذا الملف الحيوي، وتركته لواشنطن في عهد ترامب يسرح ويمرح فيه على حسابهم.
إيران لم تعد تستعجل إبرام أي اتفاق نووي جديد، وإن عادت الولايات المتحدة لتنخرط مجدداً في مفاوضات غير مباشرة حيال البرنامج النووي الإيراني في دولة قطر، ويظهر أن هذا الانخراط الأميركي هو العصا الغليظة أو السيف المصلت على دول الخليج، لدفعها إلى الاندماج في مشروعها الذي تعده، ويناقشه الكونغرس الأميركي بعنوان: "تعزيز الدفاعات وردع الأعداء" أو ما بات يعرف "بالناتو الشرق أوسطي" بصيغته الصهيونية، التي بدأت تباشيره العملية تظهر في كل من البحرين والإمارات، لدرء الخطر الوجودي الذي يحدق بالكيان الصهيوني الذي يعيش بكل مستوياته عقدة الثمانين، إذ من دون مبالغة يمكن القول إن إيران لامست حافة الدولة النووية، وهي على مرمى حجر لتدخل نادي الدول النووية، ما يضعها حتماً في مصافي الكبار، هي حتماً واحدة من أبرز اللاعبين في النظام العالمي، الذي يتخلّق من رحم الحرب الروسية الأطلسية في الشرق الأوروبي، وذلك ليس ضرباً من ضروب الخيال، بل واقع نعيش مؤشراته وتجلياته ولحظاته المفصلية ووقائعه المهمة، التي ترسم المشهدية الدولية الجديدة، التي لم يعد لواشنطن القدرة على وقف تشكلها.