الأسلحة الأيديولوجية... ماذا عن التطبيع؟
الحوار الديني له ضوابط لا يمكن تجاهلها، سهواً كان أو عمداً، وأن ثوابت الدين من ثوابت القضية الفلسطينية. فلا يخوّل لا المنطق ولا الشريعة الحكامَ، الذين يستمدون شرعية حكمهم من الدين، أن يحيدوا عن الحق، وهو واضح وضوح الشمس في النهار.
نعيش اليوم في عالم تتصادم فيه مختلف الأيديولوجيات والقيم، وينتج من هذا التصادم عدة أزمات، بما فيها تأجيج نار الطائفية والتعصب المذهبي اللذين يؤديان إلى احتدام الصراعات الجيوسياسية والنزاعات المسلحة في جهة الشرق الأوسط. يملي علينا الواقع والمنطق ضرورة الحوار الديني، والذي بات مطلبا عاجلاً من أجل حل عدد من النزاعات الإقليمية، الراجع أصلها إلى نزعات طائفية رجعية وصراعات تنم عن تصور دوغمائي للدين والعقيدة.
لكن، في الوقت نفسه، فإن مفهوم الحوار الديني ومبدأ التعايش مع "الآخر" أضحى عبارة عن سلاح أيديولوجي محض في أيدي المتخاذلين، فنجد رجال الدين يدافعون عن التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت ذريعة التعايش وتشجيع الحوار الديني، مستشهدين بموقف الرسول (ص) تجاه اليهود الذين سكنوا شبه الجزيرة العربية وسالموا المسلمين في عهد الرسالة المحمدية الشريفة.
هنا، يتجلى لنا بوضوح أن هذه المقارنة ليست بالعادلة، نظراً إلى أن يهود الكيان الصهيوني لم يجنحوا للسلم كونهم اعتدوا على أرض فلسطين، إذ احتلوها وهجّروا أهلها قسراً، ثم إنهم لا يزالون يعتدون على مقدسات كل من المسلمين والمسيحيين، وهم بذلك أول من يعرقل هذا الحوار الديني، الذي يزعم المطبعون أنه من أبرز أهداف مسالمتهم للاحتلال.
كيف في إمكاننا، إذاً، أن نصل إلى غاية الحوار الديني ونحن نرى الصهيونية تنتهك قدسية الديانات السماوية، في الوقت الذي يدعو سفراؤها في الوطن العربي إلى قيم التعايش الديني المزعوم؟ ما التناقضات المنطقية التي يتضمنها هذا الفكر؟ هل يلغي حوار الأديان جدوى النقد البناء للنصوص والممارسات الدينية، أم يجعلها منزَّهة عن الانتقاد؟ وهل من إمكان لإقامة حوار ديني خارج إطار اللغة الانهزامية التي يتبناها شيوخ الأنظمة المطبعة؟
حوار الأديان: فهمٌ خالٍ من المغالطات
يُعَدّ حوار الأديان مفهوماً حديثاً نوعاً ما بالنسبة إلى مؤرخي الغرب، إذ يُعَدّ مؤتمر باريس عام 1932 مهداً لهذا المنهج، إلّا أن السنّة النبوية، وحتى تاريخ الحضارات التي سبقت العهد الإبراهيمي، هما معطيان تاريخيان يدلان على أن حوار الأديان عنصر أساسي عمل على إرساء ضمانة للسلم والتعايش بين مختلف الشعوب قبل ظهور الديانات السماوية، ثم استمر في أداء الوظيفة نفسها بعد نزول الكتب السماوية الثلاثة.
يشير مصطلح حوار الأديان إلى منهج التفاعل الإيجابي المبني على التعايش، والذي يهدف إلى خلق علاقة تكاملية بين الأفراد المنتسبين إلى طوائف دينية ومذاهب عقائدية متعددة. ظهرت أهمية هذا المنهج ببزوغ تيار فكري يدعو إلى أنسنة القيم، إذ إن الحركة الأخلاقية الغربية وفلسفة الإنسانوية الكلاسيكية حاولتا أن تركزا على القيم المشتركة بين مختلف الشعوب والثقافات من أجل خلق منظومة قيمية أخلاقية موحدة مرتبطة بما يسمى المذهب الطبيعي.
إذا كان مفهوم حوار الأديان بُني حقاً على أساس فكر فلسفي إنسانوي، فإن من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار مدى ضعف "النزعة الإنسانية" بالمقارنة مع "النزعة القومية"، الأمر الذي يتجلى لنا واضحاً من خلال الاطلاع على التاريخ الدموي للحركات الإمبريالية والفاشية والتي كانت تتميز بكونها حركات سياسية قومية تهدف إلى تحقيق أهداف تنموية وطنية على حساب "الآخر".
يسهل في واقع الأمر تجاوز النزعة الإنسانية من وجهة نظر مرتكبي الجرائم اللاإنسانية تجاه ضحاياهم، عبر تجريدهم من إنسانيتهم ووصفهم بأنهم مخلوقات دون البشر، أو حيوانات بشرية، أو كائنات خارجة عن سيطرة نواميس الطبيعة (Manne, K., 2016)، وهو ما شهدناه على مر الأعوام في فلسطين المحتلة، وما نسمعه ونراه اليوم من خلال تصريحات رئيس أمن "دولة" الاحتلال، يوآف غالانت، الذي أصدر أمراً بغرض الحصار لغزة بعد عملية طوفان الأقصى، ووصف الشعب الفلسطيني بـ"الحيوانات البشرية" (Jazeera, 2023).
يتكرر هذا المشهد أكثر من مرة في عصر "النيوكولونيالية" المزعوم، إذ يستمر مستعمر الأمس في نهب ثروات القارة السمراء ومواردها الطبيعية، مستعيناً بتبريرات شبه أخلاقية تخفي في جوهرها فوقية عرقية وطموحات توسعية تكفلها وتمولها منظمات النيوكولونيالية مثل الأمم المتحدة.
يمكننا أن نجزم إذاً بأن حوار الأديان، وإن كان بُني على منظومة قيمية هشة، لا يمكن أن يتم في غياب النزعة الإنسانية. إذا كان الحوار الديني أداة من أدوات حفظ السلم، فهو لن يؤدي وظيفته إلا إذا كان للطرف الآخر وعي أخلاقي ونزعة إنسانية حقة، وهو ما لا يمتلكه الكيان الصهيوني الغاصب. هذا ولم تترك "دولة" الاحتلال قيمة إنسانية إلا واعتلت عنها، بل حتى القوانين الوضعية المصادق عليها دولياً نالت نصيبها من التمييع.
التطبيع مع الكيان الصهيوني من منظور إسلامي
على رغم أن الإسلام يدعو إلى الحرية في المعتقد، ويشجع على التعايش مع الغير، بعض النظر عن التباين دينياً، فإن الموقف الشرعي تجاه التطبيع مع الكيان واضح لا يحتاج إلى وسيط ليفسر ما أظهر الله في كتابه العزيز من حق، إذ قال: " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " {الممتحنة:8-9}
كما أن أغلبية النصوص الشرعية تستنكر هذا الخنوع الآثم لكيان غاصب، فإن أدلة العقل والمنطق جميعها تشير إلى كون التطبيع مع الاحتلال خيانة عظمى، لا للشعب الفلسطيني فحسب، بل أيضاً لأمة بأكملها، دُنِّست مقدساتها باعتداء جيش الاحتلال الإسرائيلي على بيت المقدس والمسجد الأقصى، زد على ذلك ارتكابه مجازر شنيعة في دور العبادة، مثل مذبحة مسجد الحرم الإبراهيمي عام 1994.
إن الكيان قائم اليوم على ظلم الفلسطينيين ونهب أراضيهم، وتعاليم الدين الإسلامي واضح موقفها بشأن الظلم، وخصوصاً إن كان هذا الظلم يُنسَب افتراءً إلى الذات الإلهية، إذ يزعم الصهاينة أن الله أورثهم الأرض وأنهم بذلك يملكون الحق في طرد أهلها منها وتهجيرهم قسراً، وهو الأمر الذي لا يرضاه رب عادل ولا إنسان مؤمن سوي.
إن الأصوات، التي باتت تصدح بحق أُريد به باطل، متعمدة تلميع صورة الكيان المحتل في أعين المؤمنين، هي أدرى بأن الإنسان المسلم، الذي لم يخرج على فطرته قط، لن يقبل هذه العقلية الانهزامية، وأصحاب هذه الأصوات أعلم منا جميعاً بأن ما ينطقون به من فتاوى مدفوعة حري به أن يفقدهم صدقية كانوا يفاخرون الناس بها.
حوار الأديان في ظل صراعات جيوسياسية
يُقْبل شبان العالم العربي اليوم على مرحلة تحولية من حيث بزوغ وعي جديد بأهمية القضية الفلسطينية، إذ إن معركة الطوفان، التي تلاها عدوان شرس على قطاع غزة، أبانت للناشئة أن المقاومة هي السبيل الوحيد نحو التحرير.
انقشعت غيمة الافتتان بالغرب بعد أن ثبت لنا أن هذا "الآخر"، الذي يدعي أنه المتحدث الرسمي باسم القيم الإنسانية، ليس سوى سوط في يد الإمبراطورية، تهوي به هذه الأخيرة على أوطاننا حينما تكون في حاجة إلى تدجين شعوبنا وسبر أغوارنا حتى نكون في خدمتها متى احتاجتنا من أجل خدمة مصالحها الإمبريالية.
تحول فهمنا للآخر ليلغي من يستحل دماء شهدائنا، ويبرر المجازر التي يرتكبها جيش المستوطنة الأوروبية في الشرق الأوسط في غزة، والتي تدعمها حكومات الغرب، حرصاً على ما تبقّى من مخلّفات استعمارها أوطاننا. في الوقت ذاته، انفتح شبان الأمة على نوع آخر من الحوار الديني، أو بالأحرى من تلاحم وتآزر بين مختلف الطوائف والأديان، وخصوصاً في فلسطين ولبنان، حيث شاهدنا المقاومة في لبنان تنتصر لمسيحيي غزة بأن ينادي مجاهد من صفوفها باسم مريم العذراء، وهو يطلق صاروخاً نحو جنود الكيان الصهيوني، ورأينا بأم أعيننا أواصر الأخوة والعروبة بين المسلمين والمسيحيين في غزة والضفة الغربية.
يُعَدّ الحوار الديني منهجاً مشروعاً من مناهج الدعوة إلى الدين الإسلامي، فالإسلام دين يكفل حرية الاختيار ويستنكر منطق الإكراه والإجبار، وساهم هذا الحوار، على مدار الأعوام، في تطور الإسلام، الأمر الذي نتج منه حاجة ملحة إلى الاجتهاد الفقهي من أجل التطرق إلى مشاكل العصر الحديث، والجواب عن أسئلة يطرحها العقل البشري بشأن مستجدات أحكام الشريعة الإسلامية.
لهذا، فإن حوار الأديان أمر في غاية الحساسية، لأنه قد يخلق صورة عن المجتمعات المسلمة تحاكي الخرافة الاستشراقية، التي أنتجها المفكر الأوروبي، كي يبرّر لنفسه وللحضارة التي ينتمي إليها جل ما ارتكبته من جرائم ضد الإنسانية في دول المشرق.
يستوجب إذاً منهج حوار الأديان فهماً صحيحاً لقضايا العصر، وإلماماً بسبل الحجج المنطقية والأدلة العقلية، ذلك بأن مجرد الاكتفاء بالنصوص الشرعية من شأنه أن يعوّق عملية التواصل بين الدعاة الذين يؤمنون بصحة القرآن والمتلقي الذي لا يؤمن به. ثم إن تجاهل المشاكل والأزمات السياسية، التي يمر فيها العالم، والاكتفاء بالحديث عن البديهيات، لا يشجعان على حوار الأديان، بل يخلقان دائرة مفرغة لا هدف منها. والدعوة إلى سلام متخاذل مع العدو هو قبول صريح بفوقية فكرية وأيديولوجية لا تتماشى مع تعاليم ديننا الحنيف.
خلاصة القول أن الحوار الديني له ضوابط لا يمكن تجاهلها، سهواً كان أو عمداً، وأن ثوابت الدين من ثوابت القضية الفلسطينية. فلا يخوّل لا المنطق ولا الشريعة الحكامَ، الذين يستمدون شرعية حكمهم من الدين، أن يحيدوا عن الحق، وهو واضح وضوح الشمس في النهار.