أزمات بغداد وأربيل.. الموازنة وكركوك وأشياء أخرى!
تعد الخلافات والتقاطعات المستمرة بين بغداد وأربيل مؤشرات ودلائل واضحة على حجم التعقيدات في العلاقة بين الطرفين.
أسفر حراك الشهور القلائل الماضية بين الحكومة العراقية الاتحادية والحكومة المحلية في إقليم كردستان إلى حقيقة جوهرية ومهمة، تتمثل في أن هناك واقعاً صعباً ومعقداً من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية يحتم على الطرفين الجلوس المستمر إلى طاولة البحث والنقاش، وطرح كلّ الملفات وتفكيكها بصورة تفصيلية، على أمل التوصل إلى حلول وسط والالتقاء عند نقاط توافقية، إن لم يكن ممكناً حسم القضايا العالقة وإغلاق الملفات الشائكة.
ولعل المسيرة الطويلة من الخلافات والصراعات والمؤامرات والحروب بين السلطة المركزية في بغداد والكرد في الشمال، والممتدة لعدة عقود، ولا سيما خلال حقبة حكم حزب البعث (1968-2003)، كرَّست حالة من انعدام الثقة بين الطرفين.
هذه الحالة بقيت راسخة ومتأصلة حتى بعد إطاحة نظام صدام في ربيع عام 2003 ودخول الكرد كطرف رئيسي في العملية السياسية الديمقراطية وإدارة شؤون الدولة بمختلف مفاصلها.
وتعدّ الخلافات والتقاطعات المستمرة بين بغداد وأربيل بشأن توزيع الموارد المالية وتبعية بعض المدن والمناطق والتركيبة الديموغرافية لها وحصة الكرد من المناصب والمواقع العليا، وحتى وجودهم في هيكلية المؤسسات الأمنية والعسكرية، مؤشرات ودلائل واضحة على حجم التعقيدات في العلاقة بين الطرفي.
وما زاد الطين بلّة هو أن انعدام الثقة انسحب إلى الدستور الذي تم الاستفتاء عليه وإقراره في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2005، من خلال المادة 140 -المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، وبالدرجة الأساس محافظة كركوك- التي كانت، في نظر البعض، بمنزلة قنبلة موقوتة وعقبة أمام أي حل أو حلحلة لمشكلات الماضي وأزماته، إن لم تكن قد جاءت لتعميقها وتكريسها.
واللافت أنَّ الحوارات والمباحثات المتواصلة بين بغداد وأربيل كانت غالباً ما تؤدي إلى خلط الأوراق وتعميق المشكلات بدرجة أكبر، بدلاً من أن تسهم في تقريب وجهات النظر وتجسير الهوة بينهما، وربما أشارت بعض أحداث النصف الثاني من عام 2017 إلى أن الطريق ما زال طويلاً لتصفير الخلافات، فبينما أقدمت حكومة الإقليم على إجراء استفتاء شعبي عام على انفصال الإقليم في 25 أيلول/سبتمبر من العام المذكور، وجه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بعد نحو أسبوعين برفع العلم العراقي على كل مباني محافظة كركوك المتنازع عليها بعد إخراج الكرد منها وإغلاق كل مقارهم الحزبية.
والآن، إنَّ التفاعلات الحادة والساخنة بخصوص الموازنة المالية ومتعلقاتها بالنسبة إلى الإقليم، وكذلك بخصوص الوجود الكردي في محافظة كركوك، أوضحت إلى حد كبير أن الهوة ما زالت واسعة جداً بين بغداد وأربيل، وأن جدار الثقة يعتريه الكثير من التصدعات!
ولأن الأمور كانت على طول الخط معقدة وشائكة، ومن الصعب بمكان حسمها ومعالجتها بصورة مرضية ومقنعة للطرفين بسبب غياب الثقة إلى حد كبير، فمن الطبيعي جداً أن يتفجر الموقف وترتفع وتيرة الأزمة بين بغداد وأربيل بعد فترة من الهدوء النسبي منذ تشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي.
وفي خضم تبادل الاتهامات والتصعيد الإعلامي، راحت فرص التوصل إلى حلول تتقلص وتنحسر، ولا سيما أن أزمة مستحقات الإقليم المالية ترافقت مع تدهور أمني خطر ومقلق في محافظة كركوك المتنازع عليها، بعد احتكاكات وصدامات شهدتها الأسابيع القلائل الماضية بين المكونين العربي والتركماني من جهة، والمكون الكردي من جهة ثانية، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى.
وكان رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور البارزاني قد اتهم في تغريدة له في منصة التواصل الاجتماعي "X" الحكومة الاتحادية بـ"انتهاك التفاهمات السابقة"، مؤكداً "أن امتناع الحكومة الاتحادية في بغداد عن إرسال مستحقاتنا المالية المثبتة في الموازنة المالية الاتحادية يعد انتهاكاً للاتفاقات الدستورية، ويلحق الضرر بمواطنينا ويقوض الثقة".
في الوقت نفسه، اتهم المتحدث الرسمي باسم حكومة الإقليم بيشوا هورماني الحكومة الاتحادية بـأنها "مارست سياسة تجويع في الإقليم، ولم تفِ بالتزاماتها، وخلطت قوت المواطنين بالمسائل السياسية، وقررت إرسال 500 مليار دينار عراقي، وهذا لا يكفي لدفع رواتب موظفي الإقليم".
أما الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتولى مجمل زمام أمور الإقليم، بزعامة مسعود البارزاني، فقد أصدر بياناً حاد اللهجة، قال فيه: "بغداد تماطل في تنفيذ الاتفاقات مع الكرد، وهناك من يعرقل التنفيذ.. وقد مرت تسعة أشهر على الاتفاق وتشكيل الكابينة الحكومية، ولم تُنفّذ النقاط المتعلقة بإقليم كردستان، وتجري عرقلة تنفيذ تلك النقاط. وقد جرى تنفيذ بعض النقاط بشكل مخالف للاتفاق، فيما لم تنفذ بعض النقاط الأخرى".
ولم يتأخر الرد من بغداد كثيراً، فقد أوضح المتحدث الرسمي باسم الحكومة باسم العوادي "أن الحكومة الاتحادية نفّذت التزاماتها المالية كاملة تجاه الإقليم، وبذلت جهوداً كبيرة لتقديم الحلول، فلغاية نهاية شهر حزيران/يونيو الماضي، بلغت الأموال في ذمة الإقليم أكثر من 3 أضعاف حصته، بحسب الإنفاق الفعلي للدولة، في حين لم تسلم حكومة الإقليم الإيرادات النفطية وغير النفطية كما أوجب تسليمها قانون الموازنة الاتحادية".
وأضاف العوادي قائلاً: "بالرغم من عدم التزام حكومة الإقليم، أخذت الحكومة الاتحادية قراراً بعدم تحميل المواطنين العراقيين في الإقليم جريرة عدم الالتزام، وعملنا بما يسمح به القانون باتخاذ قرار في مجلس الوزراء بإقراض الإقليم لحين حسم مشكلاته المالية أصولياً".
وأضاف: "الحكومة الاتحادية حريصة على حقوق المواطنين في إقليم كردستان كحرصها على حقوق المواطنين في سائر المحافظات، والالتزام بالقوانين الفيدرالية والاتفاقات المبرمة في ظل الدستور أقصر طريق لاستكمال التحويلات المالية وتعزيز الثقة".
في الوقت نفسه، أكد فادي الشمري المستشار السياسي لرئيس الوزراء العراقي في تغريدة: "تحت سقف الدستور تدار الاتفاقات والتفاهمات، ولا شيء يعلو على ذلك. ومن منطلق الحكمة والقوة، بادرنا نحو تفاهمات عميقة وشفافة مع مختلف الفعاليات السياسية، ولا سيما الملفات العالقة بين بغداد والإقليم".
وأشار الشمري إلى "أن الحكومة ورثت ملفاً معقداً ومتشابكاً مع إقليم كردستان، والتزمت بأدبيات تنفيذ التفاهمات بكل محبة وحكمة، وما زالت النيات الطيبة حاضرة شرط الالتزام بالدستور وبقواعد الاحترام واللغة المرنة والشفافية من قبل حكومة الإقليم".
ولعل الكلام الأكثر وضوحاً جاء على لسان وزيرة المالية في الحكومة الاتحادية طيف سامي، التي أكدت خلال استضافتها في اللجنة المالية البرلمانية أن إقليم كردستان حصل على أكثر من استحقاقاته، وينبغي له أن يسدد ما في ذمته من أموال بيع النفط وعائدات الضرائب والجمارك لخزينة الدولة.
وفيما بعد، عاد المتحدث باسم حكومة الإقليم ليرد على الحكومة الاتحادية بالقول: "إن حكومة الإقليم لا ترى سبباً أو عذراً لعدم إرسال رواتب متقاضي الرواتب في إقليم كردستان، ويجب إرسالها بعيداً عن الإنفاق الفعلي ومن دون أي خلط، أسوةً بالمناطق الأخرى في العراق".
وأشار بيشوا هوراماني إلى "أن الحكومة العراقية أرسلت تريليونين و589 مليار دينار لإقليم كردستان منذ بداية العام الجاري، في وقت تبلغ استحقاقاته 16 تريليوناً و489 مليار دينار، أي تريليوناً و375 مليار دينار شهرياً، بحسب جداول قانون الموازنة الاتحادية لسنة 2023".
وعلى خطٍ مواز، زادت الاحتقانات والتشنجات الأخيرة في محافظة كركوك بين مكوناتها العربية والكردية والتركمانية الطين بلّة، ولا سيما أن الحزب الديمقراطي الكردستاني كان الطرف الكردي الرئيسي فيها، فبعدما علقت المحكمة الاتحادية العليا قرار الحكومة الاتحادية بتسليم مقر العمليات المتقدم -موضع الخلاف- للحزب الديمقراطي إلا بعد التثبت من عائديته، حدثت صدامات أدت إلى مقتل وإصابة عدد من المواطنين، أغلبهم من أبناء المكون الكردي، وقيل إنهم ينتمون إلى الأجهزة الأمنية للحزب الديمقراطي الكردستاني.
ورغم أن الحكومة الاتحادية أرسلت تعزيزات عسكرية لضمان الأمن والاستقرار في المحافظة ومنع أي مظاهر وتحركات من شأنها إرباك الأمور، فإن الأوضاع فيها ما زالت متشنجة، وإن طغى عليها الهدوء الحذر.
ومن المستبعد أن تجد الملفات الخلافية الشائكة بين المركز والإقليم طريقها إلى الحل أو الحلحلة خلال وقت قريب، وخصوصاً مع تباين مواقف ورؤى الطرفين لمعالجة واحتواء الأزمة التي توسعت وتشعبت كثيراً خلال الأعوام العشرين المنصرمة، وخصوصاً مع وجود استحقاقات انتخابية قريبة، متمثلة بانتخابات مجالس المحافظات في شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل، وانتخابات برلمان إقليم كردستان في شهر شباط/فبرير من العام المقبل.
وكما قلنا قبل أكثر من عام، "قد يأمل أصحاب القرار في الإقليم تشكيل الحكومة الجديدة في أقرب وقت، وفق الشروط والمبادئ التي شدد عليها رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، المتمثلة بالشراكة والتوازن والتوافق، لتكون مفتاحاً لحل المشكلات بين بغداد وأربيل، ولكن نظراً إلى تشابك الملفات والقضايا العالقة وتداخلها، فإن أي حكومة، وأياً كان رئيسها، لن تكون قادرة على حلحلة الأمور في غياب الثقة والوضوح والشفافية، وفي غياب الاستعداد الحقيقي لحل المشكلات، لا الالتفاف والقفز عليها".
ولعل مشهد التصعيد وتبادل الاتهامات الحالي تكرر كثيراً على مدى العقدين المنصرمين، ولا سيما خلال العام الأخير، بعدما أصدرت المحكمة الاتحادية العليا عدة قرارات لا تصب في مصلحة الكرد، منها عدم دستورية قانون النفط والغاز الخاص في إقليم كردستان، وعدم دستورية إرسال أموال من الحكومة الاتحادية إلى الإقليم من دون أن يحوّل الأخير عائدات صادراته النفطية إلى خزينة الدولة، وعدم دستورية استمرار برلمان الإقليم في عمله بعد انتهاء عمر دورته. كل ذلك ساهم في تراكم الإشكاليات وتفاقم الأزمات. وقد تبدو الأزمة -أو الأزمات الراهنة- فنية وأمنية، إلا أنها في جانب كبير منها سياسية، وعنوانها الأبرز والأوضح هو "غياب الثقة"!