"الوعد الصادق" بداية مرحلة جديدة
السلوك الإيراني ظهر كسلوك دولةٍ حضاريةٍ تحترم القانون والشرعية الدوليّين، بدليل أنّها انتظرت أسبوعين لعلّ العالم الغربي يُدين استهداف القنصلية، ولكن هذا لم يحدث.
تكاد آراء المُتابعين لقضايا المنطقة تُجمع على أنّ ما بعد ردّ إيران على قصف قنصليتها بدمشق ليس كما قبله، وأنّه كما ولّى زمن الانتصارات الإسرائيلية، فقد ولّى أيضاً الزمن الذي تقف فيه "إسرائيل" على "إجر ونص" فقط لأيامٍ أو لأسابيع، وليتحوّل وقوفها إلى حالةٍ دائمة، وقد انضمّ إليها في وقفتها هذه كلّ من يرتبط بها أو يدعمها، بمن فيهم بعض الأنظمة العربية.
ما من شكٍ أن التخطيط للردّ في هذه الحالة، من حيث الهدف، والزمان، والمكان، والنتائج المُتوقّعة، كان أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد، كونه يتأثّر بعوامل كثيرة، بل ومُتناقضةٍ فيما بينها أحياناً، ولكن كالعادة تعاملت القيادة الإيرانية بكلّ رويّة وبكلّ حكمةٍ مع الاعتداء، تاركةً باب التفاوض مع الأميركي مفتوحاً، ولعدّة أيام، متُحمّلة ضغط الجمهور الإيراني المُطالب بالردّ المُباشر والفوري، وبذلك تكون قد قدّمت الحالة الإنسانية في قطاع غزّة، والمصلحة العامّة لِمحور المُقاومة، وللمنطقة بشكلٍ عامٍ على مصلحتها الخاصّة، أي أنّها كانت على استعداد ألّا تردّ مُباشرة، أو أن يكون ردّها مُنخفض المُستوى، مُقابل إيقاف الحرب على قطاع غزّة وما يتبع هذا الإيقاف، ولكن هذا لم يحدث.
وبما أنّ الكيان المؤقت كالعادة لم يُفصح عن خسائره البشرية، وبما أنّ إنجازات الردّ هي أكبر وأسمى من إيقاع خسائر بشرية، لذلك سنتجاوز هذه الخسائر ونتحدّث عن بعض الإنجازات الأكبر.
• اعتراف الغرب بإيران كأكبر قوةٍ إقليمية، بدليل تفرّغ كامل المجهود السياسي والدبلوماسي الغربي لإقناعها بعدم الردّ.
• إنّ مرحلة الردّ وما سبقها، أظهرت التفوّق التقني والمعلوماتي للمحور، برغم كلّ ما تمتلكه قواعد الغرب في المنطقة من تقنيات، بدليلين، أولهما الاستهداف اليمني المُتواصل للبوارج الغربية في البحر الأحمر، وثانيهما احتجاز إيران منذ أيامٍ لباخرةٍ مملوكةٍ من رجل أعمال إسرائيلي، وذلك رغم الحراسة الغربية المُشدّدة.
•إنّ هذا البساط السحري المُسيّر الذي وصل الأرضي الإيرانية بنظيرتها في فلسطين، أظهر مدى تطوّر السلاح الإيراني من حيث دقّة التحكّم، والمسافات المقطوعة، وتجاوزه لأحدث أنظمة الدفاع الجويّ العالميّة، كما أظهر الفاعليّة المُزيّفة لوسائط الدفاع الجويّ الغربية، بدليل أنّ أكثر من ستّ دولٍ شاركت الكيان المؤقت بمحاولة إسقاط المُسيّرات والصواريخ الإيرانية، ومع ذلك وصل مُعظمها إلى الأهداف المُحدّدة.
• وكما أن عمليّة "طوفان الأقصى" كانت مفصلية، وتعتبر درجةً إضافيةً على سُلّم بناء عالمٍ مُتعدّد الأقطاب، تأتي عملية "الوعد الصادق" لتُثبّت محور المقاومة كجبهةٍ مُتقدّمةٍ وفاعلةٍ في هذا البناء، وهذا ما أعطى روسيا والصين زخماً إضافياً للسير قدماً لإكماله.
• بعد المسمار الذي دقّته عملية "طوفان الأقصى" في نعش ما يسمّى "صفقة القرن"، وبعد أن أعادت للقضية الفلسطينية وهجها، تأتي عملية "الوعد الصادق"، لتدقّ مسماراً آخر، ولتُثبت أنّ إيران ظهير قويّ وأمين على هذه القضية.
• أمّا لشرفاء فلسطين، فإن هذه العملية قد أكّدت المؤكّد، وقالت لهم لن تكونوا وحدكم، فأعادت الوهج لروح المُقاومين، وأعطت دفعاً معنوياً عالياً، ورصيداً كبيراً لاستمرار الكفاح.
• فرض الردّ صيغةً جديدةً للتعامل، سواء كانت هذه الصيغة مع دول الغرب، وخاصّة مع الولايات المتحدة الأميركية، أو كانت مع العدو الصهيوني حيث إنها خلقت قواعد اشتباك جديدة حين أظهر الردّ أنّ في المنطقة أطرافاً لا تنام عن حقها، ولا تُخيفها التهديدات الغربية، كما أظهر أنّ الوصول إلى الكيان المؤقت هو أمرٌ مُباحٌ ومُتاحٌ ومشروعٌ حين يقرّر المحور ذلك، وأنّ على العدو أن ينتظر عقاباً مناسباً لكلّ تجاوز.
- والإنجاز الأهم، هو زيادة قناعة المُستوطنين الصهاينة بأن لا أمل لهم بحياةٍ آمنةٍ في هذه المنطقة، وهذا الإنجاز سيكون كارثياً على الكيان، وخاصّة بعد أن لمسوا، وبالدليل القاطع، ضعف وهشاشة كيانهم المزعوم، الذي لا يصمد أكثر من ساعاتٍ إذا تأخّر عنه المدافعون.
- أظهر الردّ التناغم والتنسيق ومتانة الربط بين كل أطراف المحور، وأكّد أنّ كلّ الأطراف مُتأهبةٌ ومُنتظرة، فمن اليمن، والعراق، وجنوب لبنان، حيث استمر استهداف القواعد الإسرائيلية، وصولاً إلى سوريا، التي حرّكت بعض تشكيلاتها العسكريّة باتجاه الحدود مع فلسطين المُحتّلة، بينما وضعت كلّ التشكيلات بأتمّ الجاهزية للتدخّل الفوري إذا تطوّر الموقف.
- السلوك الإيراني ظهر كسلوك دولةٍ حضاريةٍ تحترم القانون والشرعية الدوليّين، بدليل أنّها انتظرت أسبوعين لعلّ العالم الغربي يُدين استهداف القنصلية، ولكن هذا لم يحدث، الشيء الذي كشف أنّ دول العالم الغربي هي دولٌ مارقةٌ ومُنافقة.
أمّا أصحاب نظرية "المسرحية"، ولنحسن النوايا ونميّز بين شريحةٍ منهم سارت بهذه النظرية ببراءةٍ وسطحية، وشريحةٍ سارت بها بأوامر غربية، ولغاياتٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن البراءة، وهم ذاتهم أصحاب نظرية "إيران لن تردّ"، وهم أصحاب نظرية "الجيش الإسرائيلي لا يُقهر"، وحتى ولو زال الكيان الصهيوني عن الوجود، ستكون نظريتهم أن "الأميركي اتفق على تحييد الكيان، ليُظهره في مكانٍ آخر أكثر أهميّة".
وإن وافقناهم وقلنا مسرحيّة، فيا لها من مسرحيّة، أبطالها أطراف المحور، و"الكومبارس" فيها كبريات دول العالم الغربي، ويكون فيها دور بعض أنظمة الخليج هو تنظيف الصالة، ودفع التكاليف.