"لا انفعالية في الرد"... الرسائل وصلت
إيران أخذت قراراً مفصلياً محفوفاً بالمخاطر الاستراتيجية، وسيترتب على الرد تغيّر "التكتيك" في لحظات حرجة في مسار الحرب التي زاد عمرها عن الأشهر الستة في غزة.
14نيسان/أبريل، يومٌ تغيّرت فيه معادلات كانت سائدة لعقود، ذلك بمعزل عن الصواريخ والمسيّرات التي شكّلت الردّ الإيراني، الردّ الذي في حدّ ذاته كـ "فعل" يُعدّ نقلة نوعيّة في الصراع الجذري مع "إسرائيل".
في مسألة الرد..
بعد اغتيال اللواء «محمد رضا زاهدي» مع رفاق له في القنصليّة الإيرانية في دمشق، تصدرت عناوين أن إيران ستقوم بردّ على هذا الاعتداء باعتباره مسّاً بالسيادّة الإيرانية أولاً، ثم عقاباً لما فعلته "إسرائيل" بهذا التخطي.
المسألة ناقشها المتابعون بشقّين
الأوّل: تشكيك في الردّ الإيراني، وأنّه لن يكون هناك ردّ بالأصل وسيبقى الوضع في إطار التصريحات ولن يتعدى ذلك.
هنا، وبمعزل عن التأكيد الإيراني أن الردّ حتميّ، فإن المتابعين أيضاً خلصوا إلى أنّ الردّ آتٍ لا محالة، بحجّة ثابتة وهي "أنّ ذلك الحدث والتصريحات الإيرانيّة لا يمكن أن تكون جوفاء في أوّل امتحان مباشر مع الإسرائيلي، هنا سمعة إيران على المحك إضافة إلى جموع جمهور المقاومة ومحورها الذي سيبدأ التشكيك في الدور الإيراني بذاته، كما سيكون من الصعب تبرير جدوى الرد من عدمه".
الثاني: عن كيفيّة الردّ الإيراني، هل سيكون عبر حلفائها أم هي التي سترد بشكلٍ مباشر، العقّال من المتابعين والباحثين، حسموا الأمر: الرد سيكون إيرانياً خالصاً، ذاك مرده إلى طبيعة الاستهداف، ليكن السؤال المحوري "هل ستردّ إيران في حمأة الحرب الحاليّة في غزّة وجبهات الإسناد، ولا يؤدي هذا بالضرورة إلى تغيّر قواعد الاشتباك، وربما جرّ المنطقة إلى حرب إقليميّة ليس أوانها الآن؟
ذلك باعتبار أنّ إيران ستواجه "إسرائيل" وجهاً لوجه لأوّل مرّة، منذ إغلاق سفارة الكيان في إيران وفتح سفارة فلسطين بديلاً منها، أيّ منذ نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران، وإعلان العداء الصارخ لـ "إسرائيل" وباعتبار آخر "أنّ الأطلسي منذ طوفان الأقصى متمترس في المتوسط، وقد أتى أساساً للدفاع عن إسرائيل".
لا شكَّ أنّ إيران أخذت قراراً مفصلياً محفوفاً بالمخاطر الاستراتيجية، وأنّ الرد سيترتّب عليه تغيّر "التكتيك" في لحظات حرجة في مسار الحرب التي زاد عمرها عن الأشهر الستة، وهذا ليس بالأمر اليسير البتة، لأن طبيعة السياسة الإيرانية ليست بالانفعالية، ولأنه كحتميّة استقرائية للمشهد يجب تقييم الوضعين الإقليمي والدولي بعين المجهر، إذ لا مجال للارتجال في قرار وجاهي كهذا، ولا هوامش كافية لهذا الترف الثأريّ، إضافة إلى أنّ قراراً كهذا لا يؤخذ تحت أي ضغط كان شعبوياً كان أو غيره. ومن دون الغوص في هذا المقال لأن الإشارة ربما تكفي بأن إدراك تفاصيل التفاصيل أو الإحاطة الشاملة مفروضّة للتأكيد أنّ الردّ ليس أمراً إدارياً ضيّقاً بل خطوة نحو تغيير أكيد في سيرورة تشكيل المنطقة، وخلط توازنات الدول ومصالحها المتشعبة الساريّة المفعول منذ عقود.
كانت الاستعدادات داخل إيران واضحة وهذا ليس خطأ أمنياً، فقد تزامنت مع ضغوط دولية كثيفة لثنيّ إيران عن الردّ، التحضيرات العسكريّة الإيرانيّة لم تكن إلّا رسالة تعكس جديّة إيران، ولكن الذي لم يكن في الحسبان أنه قبل الردّ المباشر بساعات حصل أمر مهم في مضيق هرمز، وهو أن الحرس الثوري نفّذ عملية عسكريّة ضدّ سفينة مملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي «إيال عوفير» بالقرب من المضيق، هذه العمليّة من يأخذها على محمل توجيه رسالة إلى "إسرائيل" يكون مخطئاً، لأن أي عمليّة عسكريّة بحرية (كالذي يحدث بباب المندب مع أنصار الله) المعنيون المباشرون بها هم "أباطرة البحار" أميركا وبريطانيا، الرسالة لهم ولا دخل للكيان المحتل بها، ولا يعني إذا كان صاحبها إسرائيلياً أن "إسرائيل" هي المقصودّة، العملية كانت أوّل رسالة توجّه كسيناريو من سيناريوهات ردعيّة لما بعد الرد، فهمها المعنيون جيداً – اتصال بايدن بنتنياهو لحثه على عدم الرد، دلالة كافيّة.
الوعد الصادق... الرد
ساعات الفجر الأولى من الرابع عشر من نيسان/ أبريل لعام 2024، دوّت صفارات الإنذار في فلسطين المحتلّة، العواجل تتحدث عن كمّ كبير من المسيّرات والصواريخ الإيرانيّة موجّهة إلى الكيان الإسرائيلي، حالة من الاستنفار العسكري والإعلامي، لهذا الحدث الجلل، إيران اصطلحت عنوان "الرد العقابي" في عمليّة إغراق تعدّ من أكبر الهجومات الصاروخيّة والمسيّرات في تاريخنا الحديث.
هذا الحدث في حدّ ذاته يعدّ لأيّ قارئ حدثاً انتقالياً نوعياً، جملة "إيران تغرق إسرائيل بالمسيّرات والصواريخ كافية"، وعلى كلّ مستبصر أن يقارب العملية من زاوية "الفعل" وليس "النتائج" على أهميتها، الدفاعات الجويّة الأطلسيّة في المتوسط والأردن استنفرت كل طاقاتها و"إسرائيل" كذلك، لمنع الصواريخ والمسيّرات من الوصول إلى "إسرائيل" وسط تعهد أميركا بالدفاع عن الكيان، لكنها فشلت في ذلك نسبياً، لأسباب أهمها:
- الصواريخ الإيرانيّة تمتعت بقدرة مناورة عاليّة، رغم بُعد المسافة، أما المسيّرات فكان لها دور آخر.
- الهجوم تمّ عبر تدرّج زمني ونوعي من حيث نوعية الصواريخ وتطورها.
- الدفاعات الجويّة السورية شاركت في التصدي لصواريخ "الناتو" التي تعترض الصواريخ الإيرانية من الوصول إلى هدفها.
قراءة ما بعد الرد
واضحٌ أن الردّ الإيراني لم يكن بمستوى إشعال حرب إقليميّة رغم كثافة القصف الصاروخي، لأنّه استهدف منشآت عسكرية فقط، وشاهدنا مثلًا أنّ الصواريخ الإيرانيّة تمر فوق الكنيست الإسرائيلي دون قصفه، مبانٍ حكوميّة أخرى كوزارة الدفاع ورئاسّة الحكومة وغيرها، كانت خارج بنك الأهداف الإيرانيّة، في وقت استطاعت إيران تدمير قاعدة «نيفتيم» الجوية والمقر الاستخباري في جبل الشيخ، لما في ذلك من دلالة، لأن قاعدة «نيفتيم» هي من أهم القواعد الجويّة العسكريّة الإسرائيلية ويوجد فيها أحدث سرب طيران أميركي هو أف 35 ومنها أيضاً انطلقت غارة اغتيال اللواء «زاهدي» وذلك بالغ الدلالة.
نوعيّة الصواريخ المستخدمّة، هناك شبه إجماع، أنها ليست ضمن الثقل الصاروخي الإيراني، أي أن الردّ مدروس بمنتهى الدقة وكفيل بالقول للمستوطنين إن حكومتكم و"جيشكم" وتفوقكم التكنولوجي لا يستطيعون حمايتكم، إضافة إلى حلفائكم.
وهناك رسالة أخرى مهمّة مفادها، أننا إن فعلناها مرة نستطيع فعلها مرات، وهنا يبدأ الحديث الجدّي بوقف الحرب على غزّة، لأن قبل الردّ حكماً ليس كما بعده، والتصعيد سيأخذنا إلى احتمالات كثيرة ومتعددة ومسارات غير المعمول بها سابقاً.
إيران ردت على الإسرائيلي ومن أراضيها، وأحدثت معادلات جديدة في سياق الصراع، وأكّدت أن الأطلسي والإسرائيلي عاجزان أو ليس كما يسوّقان أنهما مستعدان لحماية "إسرائيل"، ولكن ليس بالمغامرة بمصالحهما الحيويّة في المنطقة، والأهم أن المقاومّة مستمرة وحلفها "وعده صادق".