استيطان بالتنقيط لاحتلال الخليج.. البحرين والإمارات نموذجاً
من يقرأ قصة احتلال فلسطين من بدايتها، يتأكد له بما لا يدع مجالاً للشك في أن الكيان الإسرائيلي اليوم يتّبع في الخليج المخطّط السابق بحذافيره.
أمام التهديدات الوجودية التي يعانيها الكيان الإسرائيلي اليوم، في ضوء التغيّر الكبير في موازين القوى وإرساء معادلات الردع، سواء في الداخل الفلسطيني أو من الجمهورية الإسلامية في إيران وقوى المقاومة في لبنان وغيرهما، يعمل هذا الكيان لتفعيل استراتيجيات "الاستيطان بالتنقيط"، التي يخشى مراقبون أن تكون بمثابة "الخطة ب" لضمان وجوده، فتبدأ بتعزيز النفوذ وتنتهي بسيناريوهات أخطر.
ولعلّ اتفاقيات التطبيع اليوم، التي وقعت في فخّها أنظمة عربية عدة، هي المنطلَق لهذا التوسّع والخادم الأساس للمرامي الإسرائيلية في إيجاد موطئ قدم داخل جغرافيا يراها استراتيجية جداً تسهل استباحتها على نحو تدريجي.. فيما تبقى دول الخليج هي الحلقة الأضعف، وهذا ما تبدّى مع تشريع البحرين والإمارات -على الأقل حتى اللحظة خليجياً– الأبواب ومفاصل الدولة أمام الكيان، بل والسماح له بوضع اللَّبِنات الأولى للاستيطان من باب "الأحياء اليهودية الصهيونية".
من يقرأ قصة احتلال فلسطين من بدايتها، يتأكد له بما لا يدع مجالاً للشك في أن الكيان الإسرائيلي اليوم يتّبع في الخليج المخطّط السابق بحذافيره.. قصة فلسطين التي بدأت من حيّ يهودي في زمن العثمانيين، تتكرّر أيضاً في الإمارات والبحرين. ففي نيسان/أبريل الماضي كشف الحاخام الأكبر للمجلس اليهودي في الإمارات، إيلي عبادي، النقاب عن مخطط لإقامة أول حي يهودي كامل هناك، وأوضح في تصريح صحافي نقلته صحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية أن هذا الحيّ سيضمّ كنيسًا ومنازل ومدارس ومركزًا مجتمعيًا وفنادق وسيكون الأول في الخليج. وبعد ما يقارب ثلاثة أشهر اقتبست المنامة سياسة شقيقتها الخليجية المطبّعة، فاعتمدت الحكومة خريطة سياحية نصبت عند مدخل باب البحرين برزت فيها نواة حيّ يهودي يبصر النور نهائياً في العامين المقبلين.
من حيث الشكل، فإن الإمارات والبحرين تسوّقان لإقامة هذه الأحياء على أنها ترسيخاً لمفاهيم التعايش والانفتاح على جميع الأديان، فيما المنظور الإسرائيلي لها مختلف جداً، فهذه الأحياء قد تكون مقدّمة لغايات وجودية أكبر من التعايش بكثير، تصل حدّ الاحتلال المباشر بإذعان رسمي شامل من الأنظمة هناك، وبمساعٍ أميركية جادة هادفة إلى إطالة عمر الكيان الإسرائيلي بكل السبل.
احتلال فلسطين بدأ من حيّ يهودي
من أجل تسليط الضوء أكثر على مدى خطر تخصيص مساحات لا يستهان بها من الجغرافيا الخليجية من أجل إنشاء الأحياء اليهودية، لا بدّ لنا من عودة سريعة إلى التاريخ الفلسطيني، وتحديداً إلى زمن الحكم العثماني، إذ شهد عام 1849 نقطة التحوّل الأولى التي ضمنت تمدّد اليهود وتمكينهم من شراء الأراضي في فلسطين، بخطة محكمة رعاها "موشي مونتفيوري" الذي كان أحد الأثرياء اليهود البريطانيين ومن المدافعين الكبار عن الحقوق المدنية لهذه الجماعات في إنجلترا والعالم، ومررها السلطان عبد المجيد بضغوط بريطانية، بفرمان أصدره أجاز فيه لليهود شراء الأراضي في الديار المقدسة غرب القدس، فأقاموا الحي اليهودي المسمّى "حي مونتفيوري"، ثم اتّسعت عملية تسريب الأراضي الفلسطينية إلى الأجانب، مع قانون الأراضي الصادر عام 1858، ثم لائحة التعليمات بحق سندات التمليك عام 1859، وصولاً إلى إعلان نظام تملُّك الأجانب عام 1869، سواء أكانوا أفراداً أم مؤسسات وشركات في جميع أراضي الدولة، ما دفع بريطانيا وفرنسا –على سبيل المثال لا الحصر– إلى إرسال رعاياها للإقامة في فلسطين وشراء الأراضي وإقامة المستعمرات. وبعد سنوات من ذلك استطاع اليهود التمدد في الجسد الفلسطيني كالأخطبوط، إذ ارتفعت نسبتهم في التعداد السكاني وتوسّعوا في بناء المستوطنات التي لم تكن تتجاوز 27 عام 1907 في عهد السلطان عبد الحميد، ووصلت إلى 277 مستوطنة قبيل احتلال فلسطين وإعلان قيام ما يسمى دولة "إسرائيل" عام 1948، ثم توجههم نحو تهجير الفلسطينيين أبناء الأرض وبسط سيطرتهم الاحتلالية على الأراضي المقدّسة.
انصياع إماراتي وبحريني مطلق للأوامر الأميركية على الرغم من المخاطر
لم نورِد هذا المسار التاريخي عبثاً، بل ليكون منطلقاً واقعياً نحو تفسير النزعة الاحتلالية الإسرائيلية أو ما سمّيناها في المقدّمة "استراتيجية الاستيطان بالتنقيط"، التي يُعاد تدويرها اليوم في الإمارات والبحرين، فضلاً عن أن مجرّد التفريط في مساحات محددة من الأراضي في كلتا الدولتين لمصلحة اليهود الصهاينة هو مس بالسلم الاجتماعي والأمني، ومسّ بالهوية العربية والإسلامية، فإن الخطر يكمن في انعدام الوعي السياسي لدى النظامين هناك، اللذين ربّما لا يستطيعان التمرّد على أيّ إملاءات وأوامر أميركية تتعلّق بالتثبيت الوجودي لهذا الكيان في تلك الدول، حتى وإن كلّفهما الأمر دفع أمنهما واستقرارهما فاتورةً أوّلية.
ومن الجيد هنا إعادة استعراض مشهدية زيارة وزير الأمن بني غانتس للبحرين في شباط/فبراير الماضي بمرافقة قائد القوات البحرية الإسرائيلية، دافيد ساعر سلما وعدد من المسؤولين العسكريين، وتوجيهه رسائل التهديد إلى طهران من مقر الأسطول الأميركي الخامس، في حين كشفت صحيفة "إسرائيل ديفينز" وقتذاك أن الهدف الأساسي من الزيارة قد يتمثّل في تخصيص ميناء في المملكة للبحرية الإسرائيلية لمواجهة إيران.
إن قبول النظام في البحرين بتحويل البلاد إلى ورقة توتير بيد الأميركي لمصلحة الإسرائيلي يضعه اليوم في مرمى التهديدات الإيرانية، وآخرها تحذير قائد القوة البحرية في حرس الثورة الإيراني العميد علي رضا تنكسيري، في 19 آب/أغسطس الحالي، الدول التي توفر الأرضية للتدخل الأجنبي وحضور الأجانب، خصوصاً الدول المستكبرة، وتعطيها قاعدة وأرضاً ومجالاً لتشكيل تحالف عسكري ضد دول المنطقة بأنها ستدفع تكلفة سلوكها غير الودي والاستفزازي.
استغلال إسرائيلي للأزمات الداخلية في الإمارات والبحرين
ومن هنا، يمكن القول إن الإسرائيلي يرى في الإمارات والبحرين أرضاً خصبة لتوسيع النفوذ، مستغلاً الأزمة السياسية القائمة في البحرين والعلاقات المتدهورة بين الأسرة الحاكمة والشعب هناك، لتعزيز وجوده وتسويقه على أنه لمصلحة الحكم، عبر خطة غير نظيفة وقع نظام البحرين فيها بإذعان تام، وتتلخّص في إقناعه باستغلال التطبيع من أجل إعادة التموضع السياسي وضرب الأكثرية الشيعية من خلال التغلغل الصهيوني في النسيج الاجتماعي، وبالتالي، إعادة إحياء خطة التغيير الديمغرافي للحصول على أكثرية موالية للسلطة، التي كشف عنها تقرير البندر المسرّب عام 2006.
لكن ما يريده الإسرائيلي أبعد من ذلك بكثير، فهو يريد إشباع أوهامه التوسّعية هرباً من فكرة الفشل والتفكك التي تؤكدها المواقف الرسمية الإسرائيلية الصادرة من قيادات الصف الأول، كحديث رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت في حزيران/يونيو الفائت عن أن الكيان يشهد اليوم حالاً غير مسبوقة تقترب من الانهيار، إضافة إلى تحذير وزير الأمن، بيني غانتس، من أن قلقًا يكتنف مستقبل "إسرائيل" بسبب فقدانها السيادة في النقب والجليل، وإمكانية خسارتهما في النهاية، بسبب تعاظم الثقل الديموغرافي الفلسطيني، ومظاهر تشبثهم بالهوية الوطنية، إلى جانب النبوءة الشهيرة لرئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك التي أطلقها قبيل الذكرى الـ80 لتأسيس الكيان في أيار/مايو الماضي، وقال فيها إن زوال "إسرائيل" بات قريباً باعتبار أن التاريخ اليهودي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين.
خاتمة
كل ما سبق واستعرضناه من شواهد، يشكّل جرس إنذار للأنظمة المطبّعة تجعلها تعيد حساباتها –إن كانت حريصة على وجودها أصلاً– فحكاية احتلال فلسطين بدأت بحيّ يهودي واحد، والتاريخ يؤكد أن مطامع "إسرائيل" لا تقف عند هذا الحد، فالأمور قد تتطور نحو الاستيطان المباشر، وهذا ما تشي به الاتفاقيات التي عُقدت منذ توقيع "اتفاقيات أبراهام".. فما المستقبل المرسوم إسرائيلياً لدول الخليج؟ وماذا عن فرضية تخطيط الكيان لجعل الإمارات والبحرين وطناً بديلاً؟