هل من موجة خامسة لـ"كوفيد - 19"؟
التنازل عن "الملكية الفكرية للبراءات" الخاصة بـ(كوفيد 19) وكما قُرّر أخيراً، ولو لمدّة محدودة، لمصلحة الدول الفقيرة، سيساهم، بلا شك، في مقاومة الجائحة والقضاء عليها.
تعيش الآن أغلبية المجتمعات العالمية في نهاية مرحلة الحماية الجماعية، التي اكتسبوها بفضل اللقاحات أو الإصابات السابقة. ولكيلا نرجع إلى نقطة الصفر ونحن نتابع عن بُعد مسلسل جائحة الكورونا المستجد، علينا المشاركة لحماية أنفسنا ولحماية من حولنا من موجة كورونية أخرى محتملة، وذلك بالإسهام في منع حدوثها أو الحد من تأثيرها وانتشارها.
ما يهم علماء الفيروسات في دراسة التسلسل النووي للفيروس هو البحث عن المتغيّرات الفيروسية، ومقارنتها بالتركيبة النووية الأصلية، يهتم العلماء إن كانت سلالة ما تنتمي إلى المتغيّرات المصنّفة "مثيرة للقلق" أي تزيد من سرعة انتشار العدوى وضراوتها، ويمكنها الهروب من اللقاحات المتوافرة.
للعلم والمقارنة، فيروس الإنفلونزا الموسمي يتطوّر وفقاً لنظرية "التحوّل المستضد" إذ يحصل التطوّر الفيروسي عند الناس غير المحصنين تجاه هذا الفيروس. لكن زيادة نسبة المحصنين، سواء بأخذ اللقاح أو الإصابة تحد من تطوّر الفيروس، إذ تقوم المناعة المكتسبة بمحاربته، ويصبح التطوّر الفيروسي بطيئاً وتدريجياً. وفي هذه الحال يحاول الفيروس تخطي هذه المناعة محدثاً بعض التغيّر في تسلسله النووي. إن دراسات كهذه تمكّن صنّاع لقاحات الإنفلونزا، من معرفةٍ نسبيّة للتركيبة اللقاحية المعدة للموسم الجديد.
وهذا ما يحدث أيضاً بخصوص الفيروس المُسبّب لـ(كوفيد 19)، إذ بيّنت دراسات التسلسل النووي وما يتبعه من تسلسل أميني لبروتين سبايك للفيروس التاجي، تغيّرات في تركيبة الحمض الأميني لبروتين سبايك مثل تغيّر الحامض الأميني في موقع 484 فهو ذو علاقة مباشرة بتكيّف هذا الفيروس المتحور لدخول خلايا الإنسان. ويبقى هذا الوضع فعالاً إلى أن يظهر فجأةً، متغيّر فيروسي آخر، أسرع انتشاراً من سابقه، يحل تدريجاً مكان السلالة الأقدم.
لهذا يبقى فيروس (كوفيد 19) منتشراً بين البشر. فهل هذا يعني أننا سنواجه فيروس سارس ـ كوف ـ 2 كما نتعامل مع مسبّب الإنفلونزا؟ وهل يفرض الأطباء إعطاء اللقاحات سنوياً ضد مسبب الـ(كوفيد 19) على الأقل لمن هم أكثر حاجة إليه، كالمسنين وذوي الأمراض المزمنة، ومن يعانون نقصاً في المناعة؟ والسؤال الذي يطرح نفسه، هل من الضرورة بمكان إعطاء الجميع اللقاح المُحسّن والفعّال، كما سنرى لاحقاً، كجرعة رابعة لتعزيز المناعة الجماعية أم يخصّص للضعفاء كما ذكرت آنفاً؟
لا شك في أن إعطاء الجميع جرعة رابعة هو أفضل وسيلة لمنع الموجة الخامسة، ويحد ذلك من انتشار الفيروسات المتحورة، ويحمي الأفراد جميعاً، سواءً أكانوا أصحاء أم مسنين أم مرضى ضعفاء. خصوصاً بعد مرور الوقت وتناقص المناعة الممثّلة في الأجسام المضادة أو في الخلايا التائية التي وفرتهما اللقاحات والإصابات السابقة.
يُشدّد بعض الخبراء على ضرورية تعزيز المناعة الجماعية من جهة، والحد من ظهور المتغيّرات التي صنّفتها منظمة الصحة العالمية "مثيرة للقلق". فمنذ ظهور متغير (أوميكرون) شهدت هذه السلالة عدداً من التغيرات المتتالية ما أدّى إلى ظهور المتغيّرات الأسرع انتشاراً من سابقاتها، كمثل متغيّرات: "بي أي 1 " و" بي أي 2 " و"بي أي 3" و" بي أي 4" و"بي أي 5"، وقد حصل أيضاً اندماج بين سلالتي "بي أي 1" و"بي أي 2"، ونتجت عنها سلالة جديدة سُمّيت "أكس إي" سريعة الانتشار. ويصبح أخذ اللقاحات ضرورياً لتحصين المناعة الجماعية، وعلى الأقل عند الفئة الضعيفة من المجتمع، خصوصاً بعدما أعلنت شركتا "فايزر" و"مودرنا" أن اللقاح المنتظر يحتوي على التركيبة الجديدة للمتغيّرات الأخيرة لفيروس "سارس ـ كوف 2"، وربما أيضاً، كما هي الحال في لقاح الإنفلونزا، بالتركيبة النووية المحتملة لمتغيّرات قادمة.
وما دام الفيروس في مكان ما، فإن خطر انتشار الوباء في أماكن أخرى، كما ردّده علماء الفيروسات، ليس مستحيلاً، وخصوصاً في الأماكن التي لم ينتشر فيها بعد أو تلك التي لم يتلقَّ سكانها اللقاحات الضرورية لتكوين مناعة جماعية. وأود أن أذكر هنا ما ردّده، بيل غيتس، في مطلع عام 2022 حينما قال: انتشار متغيّر "أوميكرون" قدّم لأفريقيا مناعة جماعية مجانية، عالية النسبة تقارب الـ80 % بدلاً من الـ7,5% التي اكتسبت بأخذ اللقاحات.
ويقول آخرون: إن من الخطأ أن يتعاطى الإنسان وباستمرار هذه المواد السامة الكائنة في اللقاحات. فزيادة على ما يُسمّى "المؤامرة" التي تؤدي إلى تحديد هوية الإنسان الملقّح والتصرّف بأموره الطبية، سيُؤدي أخذ اللقاح أيضاً، سواءً على المدى القصير أم الطويل، إلى أمراض غير معهودة في الجهاز التنفسي، وفي عضلات القلب، وإلى أمراض أخرى معقدة مثل: "الـ(كوفيد طويل)، وهو ذو أعراض متعدّدة وخطرة تلازم المصاب مدة طويلة.
ويتساءلون أيضاً، هل من الضرورة تلقي اللقاح وتحمُّل أضراره العديدة في وقت أصبح الفيروس فيه لا يؤثر إلّا قليلاً، وفي بعض حالات محددة على الجهاز التنفسي العلوي، وبعدما أصبحت ضراوته لا تُؤدي إلى دخول العناية المركزة ولا إلى الوفاة وأصبحت فعاليته كمثل فعالية فيروس مسبّب للإنفلونزا؟
الواقع ليست اللقاحات وحدها التي تؤدي إلى (كوفيد طويل المدى) الذي بيّنت دراسة نشرتها المجلة العلمية الشهيرة "نيتشر" في عددها 594 رقم عام 2021 أن بروتين سبايك الناجم عن اللقاح أو عن مكوّنات الفيروس نفسه بعد الإصابة هو المسبّب الأبرز لهذه الظاهرة. ومن جهة أخرى هنال من يملكون استعداداً مسبّقاً للإصابة، بعكس غيرهم الذين لا يُصابون أبداً. وبحسب ما جاء في المجلة أيضاً فإن هؤلاء المحظوظين يملكون نسبة كبيرة من الخلايا "الليمفاوية التائية" الفعّالة ضد فيروس "سارس ـ كوف ـ 2 المسبّب لـ(كوفيد 19), إذ إن البعض قد حصل عليها بعد إصابة سابقة بإحدى سلالات الكورونا العادية المسبّبة لشيء من البرد.
وفي سياق آخر، التنازل عن "الملكية الفكرية للبراءات" الخاصة بـ(كوفيد 19) وكما قُرّر أخيراً، ولو لمدّة محدودة، لمصلحة الدول الفقيرة، سيساهم، بلا شك، في مقاومة الجائحة والقضاء عليها.
ويا حبذا لو وفى ممثّلو الدول الغنية بوعدهم توفير الإمكانات الكافية للدول النامية، بوساطة منظمة الصحة العالمية، ليس في السماح بإنتاج اللقاحات التي تحد من انتشار الفيروس ومتغيراته وتقلل من نسبة دخول المستشفيات وقسم العناية المركزة ونسبة الوفيات وحسب، بل بإعطاء الإمكانات الأخرى لكي يُتمّموا فحوصهم الضرورية كمثل فحوص الـ "بي سي آر" لمتابعة الجائحة، وعمل فحوص التسلسل النووي للبحث عن المتغيرات الجديدة ولتصنيفها ومتابعتها لتجنّب الموجات الكورونية المقبلة، وتالياً لتوفير الأدوية اللازمة لمكافحة الوباء.
ولنتجنّب الموجة الخامسة أو تقليل فعاليتها، علينا الإسراع من الآن إلى احتواء العدوى بالوسائل التي أسهمت في الحد من انتشار الفيروس الكوروني المستجد، وأخذ اللقاحات إذا تطلب الأمر، وكنت مقتنعاً بذلك، ليس لحماية نفسك وحسب بل لتقوية المناعة الجماعية وحماية الضعفاء منّا.