هل بدأت نهاية "إسرائيل"؟
القوة العسكرية التي عملت " إسرائيل" لعقود على الاستثمار فيها لضمان أمنها، تعرضت لنكسات هزت ثقة الإسرائيليين بقدرتهم على مواجهة حرب طويلة، أو حروب في عدة جبهات، كما أن الاعتماد على هذه القوة هو مغامرة خاسرة.
أعادت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر سؤالاً يتمثل أمام الإسرائيليين بصورة تؤرّق النخبة الفكرية فيها؛ هذا السؤال، الذي يتعلق بوجود "إسرائيل" وقابليتها للاستمرار في ضوء المتغيرات الجيوسياسية، التي أفرزتها الحرب على غزة، أكد للإسرائيليين هشاشة كيانهم الذي استنفر الدعم العسكري الأميركي لحمايته وضمان أمنه، كما أدرك هذا الكيان أن القوة العسكرية لجيشه اختبرت ضعفها في الميدان، كما أن ما استطاعت تحقيقه من تدمير وقتل كان عبر استخدام مفرط للقوة تجرد من كل الأخلاقيات.
أما الأمن الذي ظنت "إسرائيل" أنها حققته مع الإقليم، عبر اتفاقيات السلام والاتفاقيات الإبراهيمية، فردّت عليه مواقف عربية اشترطت قبول "حل الدولتين" قبل أي تسويات ترعاها الولايات المتحدة الأميركية. لذلك، كان لا بد من مراجعة عميقة لمقومات الأمن الإسرائيلي التي تشكل أساس وجوده واستمراريته، فالدعم الأميركي بات على المحك، وبات يخضع للتجاذبات السياسية في الداخل الأميركي وللمصالح الانتخابية، والتي قد تتغير وفقاً للتحولات الحادة التي يشهدها الرأي العام الأميركي.
لم يكن هذا التحول على مستوى الشارع الأميركي فقط، وإنما أعادت الإدارة الأميركية تقويم علاقتها بـ"إسرائيل" ومدى فعالية الدعم المطلق لهذا الكيان وخدمته للمصالح الاستراتيجية الأميركية، فبدأت "إسرائيل" تتحول من قاعدة أميركية متقدمة في منطقة الشرق الأوسط إلى عبء استراتيجي يستنفد ما تبقى من رصيد الصورة الأميركية كداعمة لحقوق الإنسان والحرية في العالم.
وبات الأميركيون يسألون ببراغماتية مبررة عن فوائد "إسرائيل" في مقابل الخسائر الجيوسياسية الناتجة من دعمها، هذا الكيان الذي أحرج أميركا أمام العالم وتمرد عليها ورفض طلباتها، فأظهرها دولة ضعيفة تستجدي "إسرائيل" موقفاً أو سلوكاً يلبي بعض المطالب الأميركية ويحفظ ما تبقى من ماء وجهها المراق أمام العالم، وباتت توصف بـ"الدولة المنافقة"، التي ترسل القنابل إلى الإسرائيليين بيد، وباليد الأخرى ترسل بعض "الوجبات الساخنة" عبر الجو إلى الفلسطينيين.
أما القوة العسكرية، التي عملت " إسرائيل" لعقود على الاستثمار فيها لضمان أمنها، فتعرضت لنكسات هزت ثقة الإسرائيليين بقدرتهم على مواجهة حرب طويلة، أو حروب في عدة جبهات، كما أن الاعتماد على هذه القوة هو مغامرة خاسرة.
فعلى رغم كل القوة النارية التي استُخدمت ضد غزة، فإنها لم تستطع القضاء على حماس، ولم تستطع أن تنتزع من فلسطيني واحد جملة يحمّل فيها المقاومة تبعات الحرب وويلاتها أمام وسائل الإعلام. ومن المؤكد أن هذا المشهد، برمزيته، إنما يعكس أن القضية الفلسطينية أكبر من أي اتفاق سياسي، وهي فكرة متجذرة في ضمير الشعوب الحرة.
فكانت عبارات "صامدين في أرضنا" و"لن نرحل"، و"أرواحنا فداء لفلسطين" أمضى من كل الأسلحة في تأثيرها في معنويات الإسرائيليين. وباتت المعضلة الأمنية ماثلة بقوة أمام "إسرائيل"، فالقدرات العسكرية والاستخبارية للمقاومة فاجأت الإسرائيليين، وبات من الواضح أن الفلسطينيين يتأقلمون مع كل درجات الألم.
إن الموقف العربي، الذي كانت " إسرائيل" لعقود طويلة تحاول جاهدة أن تحرفه عن قضية فلسطين، عبر مسارات التطبيع، لم يؤتِ أكله، فالمد الشعبي العربي كان أكبر من اتفاقات الأنظمة، وأدركت "إسرائيل" أنها تعيش في محيط ينبذها حتى النخاع، وأن "زمن الذلقراطية"، كما يسميه المفكر المغربي الكبير المهدي المنجرة، لم يستطع أن يلغي فلسطين من الوجدان العربي، كما أن الهدف، الذي كانت تسعى من أجله الاتفاقيات الإبراهيمية عبر ادعاء توفير بيئة آمنة للاقتصاد والتنمية في منطقة الشرق الأوسط، وضع الدول العربية التي انخرطت في تحقيقه أمام حقيقة أن لا أمن ولا تنمية ما لم يتم إيجاد تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية. فدورات العنف والحرب ستستمر ما بقيت حقوق الفلسطينيين مغتصَبة.
أمّا التحدي الأكبر والماثل اليوم أمام الإسرائيليين فهو محدودية الخيارات أمامهم: الخيار الأول قبول دولة فلسطينية وفق ما يطلبه المجتمع الدولي، كأساس للسلام في الشرق الأوسط، وبقبول هذا الخيار - على الرغم من صعوبة اتخاذه من جانب "إسرائيل"، معولة على الدعم الأميركي - فإن تبعات الأخذ به ستعني أن "إسرائيل" ككيان قام على أيديولوجيا الحق التاريخي في الأرض باتت في طور الاضمحلال، فلطالما أنكرت وجود فلسطين، كما أن جهود الصهيونية لأكثر من مئة عام ذهبت هباءً منثوراً.
أما الخيار الثاني فهو الاستمرار في رفض "حل الدولتين"، وهو يجعل الكيان الإسرائيلي في دوامة مستمرة من الحرب واللاأمن في انعكاساتهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الإسرائيليين، الذين بات الهاجس الأمني يؤرقهم ويجعلهم يقدمون خيار الهجرة على الخيارات الأخرى، وخصوصاً مع تفاقم معاناة الجنود في الجيش الإسرائيلي بعد ازدياد أعداد القتلى والجرحى بعد الحرب على غزة.
كما أن الخلل الديمغرافي بات ماثلاً أمام الإسرائيليين كحقيقة حتمية لا يمكن إنكارها، فالحاجة إلى اليد العاملة الفلسطينية التي حاولت "إسرائيل" الاستغناء عنها بعد حربها على غزة، أضرت الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعاني أصلاً تبعات الحرب.
كما يدرك الإسرائيليون أن قتل خمسين ألفاً، أو حتى مئة ألف من الفلسطينيين في غزة، لن ينهيَ القضية الفلسطينية، فالخلل الديمغرافي الذي يأتي لمصلحة الفلسطينيين في مواجهة الإسرائيليين إنما يجعل "إسرائيل" تستذكر بمرارة سؤال بنيامين شوارتز: "هل ستعيش إسرائيل إلى سن المئة؟".
وهل سيتحول السياج، الذي وصفه الجغرافي الإسرائيلي أرنون سوفير بأنه "محاولة يائسة أخيرة لإنقاذ إسرائيل"، إلى حبل انتحار يطوق عنق "إسرائيل"؟
تدرك "إسرائيل" اليوم أن خسارتها الأكبر هي في صورتها الدولية، التي تلطخت بالدماء، وباتت مكروهة في معظم دول العالم. فالتطور الذي شهدته وسائل الاتصال جعل الجمهور في العالم يتلقى الصورة بواقعها من المصدر على الأرض من دون أن تخضع لرقابة محطات إعلامية تسيطر عليها اللوبيات اليهودية، وباتت تصل إليه صور الجرائم المروعة بحق الأطفال والنساء، ومشاهد الجوع والأشلاء، من دون وسيط منحاز، ومن دون مونتاج سياسي. وأمام كل هذه الحقائق، يدرك الإسرائيليون تمام الإدراك أن شمعة اليوبيل الذهبي لكيانهم لن تُضاء.