نكبة فلسطين: السياق والحقبة والتعريف
عندما كتب ونشر المؤرّخ الراحل الدكتور قسطنطين زريق كتابه "معنى النكبة" عام 1948، بعد أشهر قليلة من الاقتلاع والكارثة وذروة النكبة، إنما كان وصفه دقيقاً نظراً إلى ما شاهده (شخصياً وبأدواته المهنية الأكاديمية) من كارثة حلت بالشعب الفلسطيني.
السياق والآلية
التفكير ومجريات الأحداث وتخطيط العمليات في الحركة الصهيونية تشير إلى أن استهداف فلسطين حدث في منتصف القرن التاسع عشر، إلّا أن رأس الحربة (الشخصي) كان في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من العقد الأول في القرن العشرين، إذ أصبح ثيودور هيرتسيل "مدير التسويق" الرئيس للحملة الصهيونية العالمية.
وإذا ما رأينا إصدار ثيودور هيرتسيل في عام 1896 لكتابه "دولة اليهود" (دير جودينستات) قبل عام واحد من انعقاد مؤتمر الكونغرس الصهيوني في بازل عام 1897، فنستنتج أن المخطط كان يعمل وفقاً لرسم واضح المعالم لهم.
إن الإمعان في هذه الحقبة (أي منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية) يشير إلى أن "وثيقة بلفور"، الصادرة في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 كانت "تحصيلاً حاصلاً"، وعبارة عن الوصول إلى "أوج الضغط" الصهيوني في أوروبا، وعلى بريطانيا بصورة محدّدة، من أجل مصالح بريطانية اقتصادية خاصة بها.
إن الطمع الرأسمالي للإمبراطورية البريطانية جعل بعض "مدرائها" يشعر بأن في إمكانه التصرف في أي بلد محتل كأنه بلده ومُلك له، ويعطي ويوزع ويأخذ متى شاء ولمن شاء وكيفما شاء، لكن وفقاً لأجندة تخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية أولاً، وكي يستفيد المنتفع ثانية ولو على حساب طرف ثالث. وحالة فلسطين هي الأبرز والأكثر إجراماً.
الحقبة الزمنية
من هنا أدّعي أن الإمعان فيما حل بالشعب الفلسطيني بالتحديد، منذ إصدار ما هو معروف شعبيا بـ "وعد بلفور"، هو تاريخ التوقيع الرسمي لبدء النكبة الفلسطينية. ويتطلب هذا الادعاء تعريفاً جديداً، أو على الأقل تحديثاً لتعريف النكبة السائد إلى الآن.
ونقول إن من المُسَلّم به على نطاق واسع أن نكبة الفلسطينيين حدثت زمنياً في ظل الانتداب البريطاني (1917-1948) ما بين قرار التقسيم الصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 واتفاقيات الهدنة عام 1949 (مع كل من مصر وسوريا ولبنان والأردن). جدير بالذكر أنه لم يكن هناك أي اتفاق في إطار "الهدنة" أو غيرها مع الشعب الفلسطيني: ذاك المطرود أو الباقي في وطنه. وعليه، ما زال الصراع لغاية يومنا هذا في الذكرى الـ 75 مع الشعب الفلسطيني مفتوحاً: هيمنة صهيونية على فلسطين ومقاومة فلسطينية ضد احتلال فلسطين.
كمن نشأ وترعرع في مدينة يافا ما بعد احتلال شرقي فلسطين (القسم الثاني من فلسطين في حرب 1967، المعروفة بالنكسة) في بيت جده الراحل البروفيسور أديب سعادة الخوري، وتحت كنف شخصية تربوية عملاقة (هي جدتي بلاجيا ضومط بلان، حمصية المولد، والمعروفة آنذاك في يافا بـ "مدام خوري" – "التيتا") التي شيدت فضاء البيت بشعارها الذي تحول إلى "مانترا" (تعويذة): "أفضّل أن أموت في منزلي في يافا على أن أصبح لاجئة"، ناقشة في مخيلتنا عملية الإصرار على البقاء في الأرض. وكمن أخذ أيضاً يستمع ويطالع المقالات السياسية الحماسية المتتالية لوالده الكاتب السياسي (نعيم يوسف مخول)، والمتعلقة بالنكبة والأرض والزراعة والصمود، والمقالات، والمسرحيات، والمقابلات، والمحاضرات لوالدته (الكاتبة والروائية) أنطوانيت أديب الخوري، وبعدها الانتقال إلى بريطانيا والتمعن في فلسطين وفي لندن كمركز للقرارات الاستعمارية البريطانية، رأيت، بناءً على هذه التجربة الشخصية المكثفة، أن أقوم أيضاً بتدعيم ادعائي (الوارد أدناه) بمشاهدات صحافية طوال عقدين من الزمن (في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، في فلسطين تحديداً)، بالإضافة إلى عقدين من البحث الأكاديمي في الشأن الفلسطيني في بريطانيا على وجه الخصوص، وأن أقدم مساهمة لمشروع موسع أسرد في أدناه فكرته الأساسية باختصار.
ذروة النكبة
وعليه، تود هذه الورقة تقديم عدة مصطلحات لتفكيك عملية النكبة وآثارها في الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده المتعددة، وتوسيع رقعة المصطلحات التي يقترح كاتب هذه السطور تبنيها كشرح في الأدبيات السياسية – التاريخية الفلسطينية المستقبلية.
كان جزء من هذه الورقة/المقالة تم تقديمه في محاضرة في جامعة فرايبورغ في ألمانيا عام 2011، والجزء الآخر في محاضرة في مؤتمر "باندونغ" (عدم الانحياز عامي 2015 و2022). والمناسبة الثالثة كانت في مقالة تحت عنوان "ما بين بلفور وعرين الأسود: مساهمة في تعريف نكبة فلسطين" (تم نشره في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2022).
تدّعي هذه المقالة أن نكبة الشعب الفلسطيني بدأت تُنسج تراكمياً عبر كثير من المراحل التحضيرية وفقاً لمخطط صهيوني، وبناءً على عمل الضغط الصهيوني في أوروبا على وجه الخصوص من جانب الرأسمالية الصهيونية في منتصف القرن التاسع عشر، إلّا أن التاريخ "الرسمي" الذي تم فيه الإعلان خطياً والتزامه كان تماماً في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، مع إطلاق رسالة وزير الخارجية البريطاني آنذاك أرثور جيمس بلفور إلى زعيم الحركة الصهيونية روثتشييلد، فيما أصبح يسمى شعبياً "وعد بلفور"، في الـ 2 من تشرين الثاني/نوفمبر 1917، والذي تلاه احتلال بريطانيا لفلسطين، وكانت منخرطة في الحرب العالمية الأولى (وخصوصاً القدس من جانب الجنرال اللنبي) في كانون الأول/ديسمبر 1917 . إن النكبة ليست فقط أنها بدأت آنذاك، وإنما تشمل كل الذي حدث منذ ذلك الحين (حتى الآن)|، لكن هذه الكارثة النكبوية وصلت بالتأكيد إلى ذروتها بين عامي 1947 و1949 (متمثلة بطرد نصف الشعب الفلسطيني من وطنه، وتدمير أغلبية بنيته، اقتصادياً وثقافياً وتجارياً واجتماعياً)، وهذا ما نسميه "ذروة النكبة"، إلّا أنها لا تزال فعلياً مستمرة عمداً ومع سابق التصميم والإصرار، ووفقاً لمخطّط لم يتوقف إلى الآن وغداً، إلى أن يتحقق التحرير والاستقلال الفلسطينيان.
وبعيداً عن الشعارات العاطفية، فإن مشروع إنشاء "الكيان الصهيوني" كان ولمّا يَزَل مشروعاً أُسّس على برنامج مشترك بعيد الأمد بين الحركة الصهيونية وبدعم بعض القوى الاستعمارية، مثل بريطانيا وأميركا في الأساس. بل أكثر من ذلك، تدعى هذه المقالة وتُحذّر من إمكان محاولة تنفيذ فصل جديد من نكبة الشعب الفلسطيني، إذ من الممكن جداً أن تشمل أيضاً طرد فلسطينيين آخرين من فلسطين (غربي فلسطين وشرقيها) لأنّ الهدف هو الاستيلاء على فلسطين (الجغرافيا) كلها، وأن الشعب (الديمغرافيا) هو العائق الذي يجب التخلص منه.
"ضحايا النكبة"
كل الشعب الفلسطيني هو ضحية النكبة المستمرة؛ أولئك الذي قضوا نحبهم شهداء ومن تبقى من الأحياء منهم، ومن كان حيا منذ عام 1948 وتوفي وأولاد كل هؤلاء وأحفادهم، كما كل فلسطيني في قيد الحياة، وكل من سيولد لكل الشرائح الوارد ذكرها أعلاه، لطالما ما زالت النكبة مستمرة. فكل هؤلاء يشكلون الشعب الفلسطيني بأكمله، وكلهم ضحايا. لتعريف الضحية أدبيات قانونية أممية كثيرة. ففي إطار صك حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، والمعنون بـ "إعلان بشأن المبادئ الأساسية لتوفير العدالة لضحايا الجريمة وإساءة استعمال السلطة"، يُعرَّف "ضحايا الجريمة" بـ "الأشخاص الذين أصيبوا بضرر، فردياً أو جماعياً، بما في ذلك الضرر البدني أو العقلي أو المعاناة النفسية أو الخسارة الاقتصادية، أو الحرمان بدرجة كبيرة من التمتع بحقوقهم الأساسية، عن طريق أفعال أو حالات إهمال تشكل انتهاكا للقوانين الجنائية النافذة في الدول الأعضاء، بما فيها القوانين لتي تحرم الإساءة الجنائية لاستخدام السلطة". ومن المفترض أن تُطبق الأحكام الواردة (هنا) "على الجميع دون تمييز من أي نوع، كالتمييز بسبب العرق واللون والجنس والسن واللغة والدين والجنسية والرأي السياسي أو غيره والمعتقدات أو الممارسات الثقافية والملكية والمولد أو المركز الأُسري والأصل العرقي أو الاجتماعي والعجز". كما يرد أيضا بند "الوصول إلى العدالة والمعاملة المنصفة" عبر "آليات العدالة والحصول على الإنصاف الفوري، وفقاً لما تنص عليه التشريعات الوطنية فيما يتعلق بالضرر الذي أصابهم". كما يجب تعزيز الآليات القضائية لتمكين الضحايا من الحصول على الإنصاف من خلال الإجراءات الرسمية أو غير الرسمية العاجلة والعادلة، وتسهيل استجابة الإجراءات القضائية والإدارية لاحتياجات الضحايا باتّباع "رد الحق" و"المساعدة" و"التعويض" و"جبر الضرر"، بالإضافة إلى القرارات الأممية التي صدرت لمصلحة الحق الفلسطيني من جانب الأمم المتحدة في انعقادها كهيئة عامة ومجلس أمن. تعريف الشعب الفلسطيني كضحية (نتيجة أضرار مادية ونفسية واجتماعية ومعنوية وسياسية) يتطلب منا تفكيك أنواع الضحايا الفلسطينيين، وهم: 1ـ الشهداء وهم الذين قُتلوا في أرض المعركة قبل ذروة النكبة وخلالها وبعدها في أرض فلسطين، أي في الأقطار العربية المجاورة. 2ـ اللاجئون: كل اللاجئين الفلسطينيين، الذين تم طردهم إلى خارج فلسطين، وكل أولئك المهجرين في داخل فلسطين، وتم تدمير قراهم/مدنهم بالكامل أو جزئياً، وما زالوا لاجئين في وطنهم أو خارج الوطن، مع الفارق النفسي -الجغرافي. 3ـ الناجون من النكبة: هم تلك الشريحة الفلسطينية التي نجحت بأعجوبة، وتحمل في ذاكرتها قصص نضالات كانت محفوفة بالمخاطر الجمة، ونجحت في البقاء في الوطن، وما سمّيته "غربي فلسطين".
"الناجون من النكبة "
منذ "ذروة النكبة" بين عامي 1947 و1949 شَكّلَ الفلسطينيون الذين سمّيتهم "الناجين من النكبة" وأعني أولئك الذين استطاعوا البقاء في وطنهم والذين أُريد لهم أن يكونوا حطّابين وساقِي ماء (وفقاً لإدارة الاحتلال) للطبقة الصهيونية الحاكمة (وخدمها من العرب اليهود الذين جُلبوا من الدول العربية للاستعمار في فلسطين)، "مشكلة أمنية" (طابوراً خامساً) ليس في الجليل والمثلث والنقب فحسب، بل أيضاً في مدن الساحل الفلسطيني، كمدينة عكا شمالاً (وتحويل سكانها إلى المكر) ويافـا جنوباً (وتحويل سكانها شرقاً إلى اللد والرملة بعيداً من البحر).
عندما كتب ونشر المؤرّخ الراحل الدكتور قسطنطين زريق كتابه "معنى النكبة" عام 1948، بعد أشهر قليلة من الاقتلاع والكارثة وذروة النكبة، إنما كان وصفه دقيقاً نظراً إلى ما شاهده (شخصياً وبأدواته المهنية الأكاديمية) من كارثة حلت بالشعب الفلسطيني، وتزاوجت مع الصدمة النفسية الكارثية المدوية.
لذلك، فإن الإمعان فيما حل بالشعب الفلسطيني في أكثر من قرن يتطلب تعريفاً جديداً، أو على الأقل تحديثاً لتعريف النكبة السائد إلى الآن. فإن ما حدث منذ عام 1917، وما تلاه من تسهيل الهجرة الاستعمارية الصهيونية لفلسطين، مروراً بقرار تقسيم فلسطين عام 1947، واحتلال القسم الثاني من فلسطين عام 1967، والانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، واتفاقيات أوسلو وإفرازاتها، والانتفاضة الفلسطينية الثانية التي انطلقت من القدس عام 2000، وقتل القائد الفلسطيني الرسمي الأول ياسر عرفات عام 2004، والحروب المتكررة على قطاع غزة، والعدوان المستمر على الضفة الغربية والقدس المحتلة، بالإضافة إلى مجموعة "قوانين" عنصرية تميز ضد الشعب الفلسطيني في غربي فلسطين ("نجاة النكبة")، وتحديداً "قانون القومية" لعام 2018، والقتل المستمر لشرائح متعددة من الشعب الفلسطيني في شرقي فلسطين المحتل، واعتقال أكثر من مليون فلسطيني منذ النكسة، بمن فيهم النساء والأطفال والمسنون، والاستيطان الأخطبوطي والذي لم يتوقف (جغرافياً أو تخطيطه) يوماً واحداً، ومصادرة الأراضي وعملية "صفقة القرن" ومخطط "الضم" (نتنياهو وترامب) (وما سمّيته في مقالة سابقة "النهب المسلح الثالث")، والحصار الاقتصادي والحصار "العسكري" الاحتلالي لقطاع غزة، جواً وبحراً وأرضاً، ذلك كله يشير إلى الفصول المتعددة والمستمرة في نكبة الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور إلى الآن.
"غربي فلسطين"
عندما قتلت آلة القمع الإسرائيلية ثلاثة عشر مواطناً فلسطينياً مسالماً في مدن "غربي فلسطين"، (هي تسميتي للجزء الذي تم احتلاله في نكبة عام 1948، إذ تسمى أحيانا هذه الفئة "فلسطينيي الداخل" المحتل)، وهم يحتجون في مظاهرات جماهيرية متتالية في مطلع تشرين الأول/أكتوبر ضد فاشية المجرم شارون، الذي أدى اقتحامه الحرم القدسي الشريف إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول/سبتمبر 2000، هم من وصفتهم بـ "الناجين من الـنـكـبـةِ" من السكان الأصليين القاطنين في هذا الجزء من فلسطين.
هم الذين نجوا من تراجيديا الترحيل وشقاء اللجوء ومعاناة التشرّد، والتي صعقت بها النكبة بصورة مباشرة نحو 800 ألف فلسطيني، لينجوَ 200 ألف منهم (أهالي المتظاهرين الشهداء مثلاً عام 2000)، وليبقوا في مدنهم وقراهم، وليتم إخضاعهم عبر قرارات وممارسات قمعية (متجددة لغاية الان) وفقاً لـ"أنظمة الطوارئ" المتوارثة من الاحتلال - الانتداب البريطاني، ولتضيف الإدارة الصهيونية التي تحكم فلسطين جهاز قمع إضافياً، وهو الحكم "العسكري" الذي انتهى "شكلياً" في 1 كانون الأول/ديسمبر 1966 (وفي مرحلة الإعداد) لاحتلال الجزء الثاني من فلسطين، ونقل الحكم العسكري المباشر من المنطقة المحتلة عام 1948 إلى المنطقة المحتلة عام 1967.
في حقبة "الحكم العسكري" المباشر، وبعد تهجير السكان الأصليين تم هدم مئات المواقع (المدن والبلدات والقرى) الفلسطينية، وتهجير سكان عدد من القرى الفلسطينية داخلياً (انظر قريتي أقرت وبرعم على سبيل المثال، وصراعهما حتى الآن)؛ كما تزاوج ذلك مع عملية تدمير ممنهج لأحياء عريقة في المدن العربية (مثل حي المنشية في يــافــا، على سبيل المثال لا الحصر). يُضاف إلى جرائم التطهير العرقي والحضاري والمعرفي (ملاحقة سياسية وملاحقة ثقافية وقوائم سوداء واعتقالات وقطع أرزاق من أجل خلق تبعية ومحاولة تجنيد العملاء) تنفيذ أيادي الإجرام الآثمة مجزرة قرية كفر قاسم (جنوبي المثلث – شرقي فلسطين الاصلية) في حق الكادحين من عمال القرية العائدين من حياة العمل والصمود يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956.
ناكرو النكبة
الادعاء هو أنه ليس لإنسان واحد، أيّاً كان، ولا لشعب، أينما كان، وفي أي وقت كان، وكالة حصرية على العذاب والمآسي والاحزان! وللشعب الفلسطيني (في جغرافياته المتعددة وتجاربه المتنوعة) في مضمار العذاب المستمر نصيب كبير من مصائب البشرية في الأعوام المئة المنصرمة، وتحديداً بسبب استمراره لهذه اللحظة. لذلك، فإن محاولة إنكار النكبة عموماً، أو ذروة النكبة، يجب أن تواجَه بحملة إعلامية عالمية مماثلة (ولربما أكبر) للحملة التي تعمل عليها الحركة الصهيونية باستمرار ضد ناكري "المحرقة". وعلى رغم أننا مبدئياً مع حرية التعبير عن الرأي بالكامل، إلّا أنه لا يمكن قبول محاولات منع التداول الفكري والجماهيري بالنكبة، ناهيكم بمحاولات تجريم ذلك، بينما لا نقوم بالعمل بالمثل. لذلك، يتوجب العمل في المسار التشريعي وسن قوانين (في جميع الدول) تقوم بتجريم من ينكر النكبة.
وكنا في العام الـ99 على إصدار رسالة بلفور (تماماً في الـ 16 من كانون الأول/ديسمبر 2016، أطلقنا "مبادرة فلسطين 100" للاشتباك المجدد مع بداية هذه الكارثة) عاقدين العزم على تجديد التشجيع على فتح ملف بلفور منذ بدء نكبة الشعب الفلسطيني عام 1917. لذلك، أقمنا أمسية الإشهار في لندن كعاصمة للإمبراطورية البريطانية التي أصدرت رسالة بلفور إلى الحركة الصهيونية. وطالبنا كذلك في إطار تحميلنا بريطانيا مسؤولياتها التاريخية القانونية والأخلاقية بثلاثة أنواع من الخطوات، هي: الاعتذار والتعويض والتصحيح. ونرى أن اختزال أي خطوة من هذه الخطوات سيكون عملاً ساذجاً أو ناقصاً أو مخادعاً.
لقد بدأنا العمل منذ عامين على برنامج يشمل فيما يشمل: 1ـ مواجهة نكران النكبة؛ 2ـ طرح وثيقة عالمية تسمى "تصريح النكبة" للتوزيع والتبني والتعليق على الحائط؛ 3ـ حملة لتمرير قرارات في البرلمانات العالمية بالاعتراف بالنكبة وإقامة النشاطات. وتبنّت عضو الكونغرس الفلسطينية رشيدة طليب هذا الطرح، وبدأت الإجراءات الأولية مؤخراً، كما أقامت ندوة في الكونغرس بشأن ذكرى النكبة، الأمر الذي أدى إلى حملة سلبية شعواء ضدها وضد مؤيديها، أمثال عضو الكونغرس والمرشح (داخل الحزب الديمقراطي) بيرني ساندرز. وهنا نرى، لأول مرة، نجاحاً في الأمم المتحدة التي تقيم في الذكرى الـ 75 للنكبة نشاطاً خاصاً، وهذا تقدم على رغم تأخره.
إننا نعمل بالعلم ووفقاً للقانون الدولي، ونعي تماماً أنه ستكون هناك ملاحقات إعلامية وجماهيرية و"قانونية" من جانب اللوبي الصهيوني وأعوانه، إلّا أن هذا لن يردعنا عن التقدم نحو هذا البرنامج الإنساني العادل، والذي يتطلب الميزانيات. وهنا ندعو كل من تروق له الفكرة إلى القيام بمؤازرتها والتواصل معنا. فما بين تعريف لمصطلحات وبرنامج عمل هناك حاجة إلى استمرار تطوير هذين المسارين: الفكري والعملي، آخذين في الاعتبار أن المسيرة ليست قصيرة، وأن الرحلة قد تكون أحياناً وَعِرة. لكن ما ضاع حق وراءه مطالب، بإصرار.