مانديلا السنغال: من السجن إلى الرئاسة والمأزق الفرنسي
حمل وصول "فاي" إلى سدّة الرئاسة أسئلة كثيرة حول مستقبل العلاقة بين السنغال وفرنسا التي تتراجع بوتيرة عالية وبانتكاسات متواصلة في القارة السمراء.
قبل عام دخل السجن بتهمة ازدراء المحكمة وإهانة القضاء، وخرج على أثر عفو عام من الرئيس ماكي سال لتهدئة المشهد السياسي، ليصبح بعد عشرة أيام رئيس السنغال بانتخابات ديمقراطية لا يشوبها أي شائبة، وباعتراف جميع القوى السياسية.
من بوابة أحد سجون دكار خرج فاي إلى الرئاسة متفوّقاً على 17 منافساً وهو أصغر المرشحين في بلاده السنغال، عمره 44 عاماً ولم يسبق أن تولى أي منصب كبير، إنه رئيس السنغال "باسيرو ديوماي فاي" المتديّن في قصر علماني على حد وصف البعض، والذي شكّل انتخابه تحوّلاً تاريخياً في بلد يصفه المراقبون بواحة الحرية والديمقراطية في الغرب الأفريقي.
حمل وصول "فاي" إلى سدّة الرئاسة أسئلة كثيرة حول مستقبل العلاقة بين السنغال وفرنسا التي تتراجع بوتيرة عالية وبانتكاسات متواصلة في القارة السمراء.
الرئيس الشاب الشعبوي
خرج من السجن ليدخل خلال أيام إلى القصر الرئاسي بثقة شعبية من دون دعاية إعلامية. من هو هذا الشاب الطموح وما هي أبرز مواقفه؟ ولد الرئيس "فاي" من أسرة متواضعة في بلدة زراعية، ويثير الرئيس الشاب جدلاً على أكثر من صعيد فهو سيدخل القصر بزوجتين (متزوج من امرأتين)، وكما يصفه السنغاليون "ابن الشعب المتحرّر"، تلقّى تعليمه كلّه في السنغال (الإدارة والقانون) ولم يدرس في فرنسا مما جعله مختلفاً عن مجمل وأهم سياسيي البلاد، ولم يسبق له أن تولى مناصب رفيعة في الحكومة.
بدأ موظفاً في الإدارة العامة للضرائب ودخل معترك الحياة السياسية مبكراً، ونجح في حجز مكانٍ بالقرب من ملهمه ومرشده السياسي عثمان سونكو رئيس (الحزب الوطني السنغالي من أجل العمل والأخلاق والأخوّة)، وزعيم المعارضة في السنغال، انتسب للحزب سنة 2014، ومن خلال حركته ونشاطه السياسي وديناميكيته تولى منصب الأمين العام، وهو ثاني أهم المناصب القيادية في الحزب، ووصف لاحقاً بمرشح الاحتياط، فعندما غاب رئيس الحزب السجين عثمان سونكو عن سباق الانتخابات حضر "فاي" بديلاً عنه ليصبح خامس رئيسٍ للسنغال، وأصغر الرؤساء سناً في تاريخ البلاد.
رحلة "فاي" للفوز لم تكن سهلة حيث خرج من السجن قبل عشرة أيام فقط من انتخابه، وبعد أسبوع من بدء الحملة الانتخابية، وقد قضى سنوات عديدة قبل ذلك في ظل حليفه ورئيس الحزب عثمان سونكو ذي الشخصية الكارزمية، ولكن الغضب الشعبي من الحزب الحاكم وحصول "فاي" على دعم زعيم المعارضة كانت من أهم الأسباب التي ساهمت في فوزه على منافسيه حيث حصد 54% من الأصوات مقابل 35% لمنافسه أمادوبا.
مشروع الرئيس الجديد
استند مشروعه السياسي على "إعادة تأهيل مؤسسات الدولة وسيادة القانون في البلاد"، قال إنه يريد محاربة ما أطلق عليه اسم (الرئاسة المفرطة). كما وعد أن يسعى إلى إعادة توازن العلاقات الدولية للسنغال وإعادة التوازن إلى الشراكات الدولية.
ومن أهم نقاط مشروعه السياسي محاربة الفساد، إعادة النظر في العقود التي أبرمتها السنغال مع دول أخرى وتحديداً فرنسا التي تعد الشريك التجاري الرئيسي للسنغال، وكذلك تحرير البلاد من التبعية لها، كإنهاء التعامل بعملة الفرنك الأفريقي الموروثة من الاستعمار وإصدار عملة وطنية جديدة، هذه الملفات والوعود الجريئة طرحها "فاي" ضمن برنامجه الانتخابي ونجح في استقطاب الناخبين الشباب على وجه الخصوص.
وعود الرئيس الشاب حملت معها مخاوف وتحليلات متباينة بشأن العلاقة مع فرنسا ومستقبل المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (ECOWAS) والتي تمثّل السنغال إحدى أهم ركائزها. ففي الوقت الذي ينظر فيه مراقبون إلى أن فوز "فاي" هو ضربة موجعة جديدة لفرنسا ولنفوذها في القارة السمراء واستكمالاً للتوجّه الذي قاده زعماء (بوركينا فاسو ومالي والنيجر)، الأنظار متجهة الآن إلى كيفية وطريقة تعامل الرئيس الشاب مع فرنسا التي تسيطر على الكثير من مفاصل الحياة في السنغال، وهل سيتمكّن من الخروج من تحت العباءة الفرنسية، خاصةً وأن حجم المصالح المتداخلة كبير وكبير جداً.
الرئيس "فاي" وفي أول خطاب له بعد فوزه، سعى إلى تطمين شركاء بلاده الإقليميين والدوليين حيث قال (أدعو إخواننا الأفارقة للعمل معاً من أجل تعزيز المكاسب التي تمّ تحقيقها في بناء التكامل لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) مع تصحيح معاقل الضعف وبعض الأساليب والاستراتيجيات والأولويات السياسية، أود أن أقول للمجتمع الدولي ولشركائنا إنّ السنغال سوف تحتفظ بمكانتها دائماً وستظل دولة صديقةً وحليفاً آمناً وموثوقاً به لأي شريك ينخرط معنا في تعاون نزيه ومحترم ومثمر للطرفين).
وفي أول اتصال تهنئة عالي المستوى هنأ الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" الرئيس "باي" على فوزه مؤكداً بأنه يتطلّع إلى العمل معه، وتأمل فرنسا في الحفاظ على علاقات متينة مع داكار وتراهن عليها في مساعدتها على حلحلة بعض الملفات المؤرقة، ولا سيما بعد تراجع نفوذها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر في غرب أفريقيا، والتي تحكمها أنظمة عسكرية جاءت من خلال انقلابات حدثت خلال الأعوام الماضية، وقرّرت على أثرها إلغاء الاتفاقيات العسكرية مع فرنسا.
ينتظر "باسيرو ديوماي فاي" جملة من التحديات والعقبات التي تعترض طريقه نحو تشكيل مشهد سياسي جديد في السنغال، وبالطبع الأيام والأشهر المقبلة كفيلة بالإجابة إذا كان الرئيس الطموح والمندفع والمتحرّر سينجح أم لا في مهمّته الشاقة.