ليلة حرب قصيرة
بينما يقوم الرهان الأميركي على السعي الحثيث لاحتواء محور المقاومة في سوريا وإضعاف جبهته، يعمل هذا المحور دائماً على الخروج من دائرة الخناق والتملص من الاحتواء وفق إمكانياته.
لم تمر الليلة الثالثة من شهر رمضان في شرق سوريا كغيرها. هي ليلة شهدت حرباً قصيرة وصغيرة بين قوى كبرى، من دون أن تتوسع لتصبح حرباً تقليدية بين محورين، هما محور الشر الأميركي ومحور المقاومة.
حلبة الصراع المحموم بين القوى المتنازعة الموجودة في سوريا، والذي كان يتحوّل أحياناً إلى ردود عسكرية متقابلة ومحدودة، تحوّلت ليلة أمس إلى ساحة حرب مصغرة، وإن كانت محدودة، لكنها كادت أن تتوسع.
ليلة ساخنة شهدها الشرق السوري إذاً، فبعدما هاجم الجيش الأميركي مواقع مدنية في دير الزور هي عبارة عن مخازن تغذية ومراكز خدمات، دُكّت القواعد الأميركية في سوريا على طول الضفة الشرقية لنهر الفرات بعدة ضربات صاروخية في حقل العمر وقواعد حقل كونيكو وقاعدة الشدادي، في مشهدٍ لم يكن أحد يتوقعه في السابق، فبعد أن كانت واشنطن تمتلك اليد الطولى على العالم، باتت قواتها اليوم تتلقى الضربات وتتكبّد خسائر في الأرواح.
قواعد غير شرعية
تضم القواعد الأميركية مئات الجنود، وهي تفوق العشرين في كل سوريا، وقد تم بناؤها بذريعة دعم ما يُعرف بـ"قوات سوريا الديمقراطية"، ومنع قيام تنظيم "داعش" مجدداً، وكانت القوّات الأميركيّة وقوّاتٌ تابعةٌ للتّحالف الدّوليّ قد دخلت إلى عدّة مناطق سورية، لكي تتمكّن من إقامة هذه القواعد، لتحافظ من خلالها على وجودها هناك، بهدف قطع الطّريق على الوجود الرّوسيّ والإيرانيّ في المنطقة، حيث تنتشر في المنطقة الشّرقيّة والشّماليّة الشّرقيّة من سوريا.
وتتوزع القواعد العسكريّة الأميركيّة شرق سوريا، في المنطقة الممتدّة شرق نهر الفرات من جنوب شرق سوريا بالقرب من معبر التّنف الحدوديّ، إلى الشّمال الشّرقيّ بالقرب من حقول رميلان النّفطيّة. كما أنّ توزّع القواعد الأميركيّة جعلها أشبه بالطّوق الذي يُحيط بمنابع النّفط والغاز السّوريّ الموجود شرق نهر الفرات، وهو ما يُمثّل غالبية الثّروة النفطية لسوريا، فضلاً عن محاولة منع التقاء قوات المقاومة، وتقويض النفوذ الروسي في سوريا، وكما هو واضح تتبع الولايات المتحدة نهجاً يعمد إلى دعم وجودها في سوريا وتكثيفه في منطقة الشمال الشرقي، حيث تعد محافظة الحسكة مركز الانتشار العسكري الأميركي الأبرز في سوريا.
كذلك أقامت واشنطن قاعدةً استراتيجيّةً لها في منطقة التنف، إذ تأتي أهمية البادية السّوريّة في أجندات واشنطن من خلال السّيطرة على معبر التّنف الحدوديّ، الذي حوّلته إلى قاعدة عسّكريّة عام 2017، وتقع في منطقة المثلّث السّوريّ العراقيّ الأردنيّ، حيث تتمثّل أهداف هذه القاعدة بشكلٍ أساسيٍّ في تعطيل الممرات التي تستخدمها قوى المقاومة، بهدف مواجهة تمدّدها.
قوتان متصارعتان
بسبب هذا الوجود غير الشرعي للقوات الأميركية في المنطقة، تتسم العلاقة بين أميركا وإيران ومحور المقاومة في سوريا بالردع الدقيق الذي لم يصل إلى مستوى الحرب الكاملة، إذ تؤكّد سياسات كل من الطرفين على تفادي المواجهة الشاملة.
وبينما يقوم الرهان الأميركي على السعي الحثيث لاحتواء محور المقاومة في سوريا وإضعاف جبهته، يعمل هذا المحور دائماً على الخروج من دائرة الخناق والتملص من الاحتواء وفق إمكانياته التي تسمح له بتعطيل مفاعيل المسار الأميركي.
وفيما سعى محور المقاومة إلى إفشال مخطط المشروع التكفيري في منطقة غرب آسيا، والحفاظ على الردع الموجود وشبكة المواصلات بين سوريا والعراق ولبنان، وإعادة بناء الردع الاستراتيجي في سوريا، كانت واشنطن تعمل على الاحتفاظ بالوجود غير الشرعي لقواتها في مناطق شمال شرقي سوريا وبناء القواعد فيها، وسرقة موارد المنطقة النفطية، وكذلك تطوير بنية الحليف الكردي وتكريس النطاق الانفصالي والدفع نحو خلق بؤر انفصالية جديدة في الجنوب، واستهداف مشروعية الدولة وجغرافيتها، فضلاً عن السماح بالتصعيد العسكري الإسرائيلي.
قواعد الاشتباك والردع
يأتي السؤال في إطار الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط، هل ستنسحب القوات الأميركية من سوريا؟
تريد القوات الأميركية أن تحافظ على الوضع الراهن في سوريا، ما دام إبقاء القوات الأميركية في سوريا، هو في مصلحة الولايات المتحدة، ومن خلال البحث في موضوع الوجود الأميركي العسكري في سوريا من عدة أبعاد سياسية وجيواستراتيجية، نجد أن الانسحاب الأميركي لن يحصل قريباً، نتيجة ارتباط الوجود الأميركي في سوريا بوجوده في العراق. كما لن تقبل واشنطن بالسيطرة الروسية - الإيرانية مع ما يعنيه ذلك لوجود محور المقاومة، في سوريا، خاصةً في ظل الانفتاح العربي على سوريا، بعد أن كان واضحاً أن الحرب على سوريا كانت لمعاقبتها بسبب وقوفها إلى جانب قوى المقاومة والقضية الفلسطينية.
لذا، من المستبعد أن تنسحب القوات الأميركية كلياً من سوريا، مع وجود احتمالات لحصول بعض عمليات إعادة الانتشار، لكي لا تخلي الساحة كلياً للوجود الروسي، فضلاً عن وجود محور المقاومة وتأثيره في مجمل المشهد وتهديده لأمن "إسرائيل"، لكن الأبرز في المشهد أن القوات الأميركية ليست هي صاحبة اليد الطولى، بل باتت تتلقى الضربات بشكل متكرر وكبير.
وقد أتى الرد على القوات الأميركية من خلال القصف بالصواريخ والطائرات المسيرة، كتثبيت لمعادلة الرد على أي اعتداء أميركي، وأن كل القواعد الأميركية هي هدف مشروع، وهو ما يعدّ أداة ضغط مهمة جداً في مسار مواجهة الاحتلال الأميركي للأراضي السورية، وبالتالي الضغط على هذه القوات لمغادرة أراضي سوريا.
وعليه، من المتوقع أن تتزايد العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية، لزيادة الضغط على الإدارة الأميركية لإحداث تحوّلات في سياساتها الخارجية تجاه سوريا، وبالتالي السعي إلى تخليص هذه المنطقة من الوجود الأميركي بما يضمن حماية طريق بغداد – دمشق بما له من أهمية بالنسبة إلى الحلفاء، خاصةً أن الحالة الأميركية في الشرق الأوسط في تراجع، في مقابل محاولة الدخول في تسويات سياسية ودبلوماسية عديدة بين بلدان المنطقة، ما يسمح بالضغط على واشنطن لتقليص وجودها في المنطقة والانسحاب من سوريا.